الحكم الصادر يوم 17 نوفمبر الماضي بالإعدام ضد رئبسة الحكومة البنغلاديشية المعزولة “الشيخة حسينة واجد”، المقيمة حاليا في منفاها الإختياري بالهند، من قبل محكمة هي أنشأتها في عام 2009 لملاحقة المتورطين في القتل خلال حرب الاستقلال، لن يساعد إطلاقا على توفير الأمن والإستقرار في هذا القطر المنقسم على نفسه إيديولوجيا منذ عدة عقود.
بل هو يثير المتاعب ويعزز الانقسام والتوتر داخليا، كما أنه يزعزع الاستقرار في شبه القارة الهندية بسبب تعقيدات العلاقة بين بنغلاديش المنحازة، في ظل حكومتها الانتقالية الحالية إلى باكستان والصين، على حساب جارتها الهندية الكبرى. فكما أن للمتهمة خصوما كثراً في صفوف السلطة الحالية بقيادة البروفسور محمد يونس وصفوف “الحزب الوطني البنغلاديشي” بقيادة البيغوم خالدة ضياء، فإن لها أيضا أنصاراً ونفوذاً سياسيا واسعا ومتجذراً، كونها إبنة ووريثة أبو الاستقلال ومؤسس دولة بنغلاديش المستقلة “الشيخ مجيب الرحمن”. ناهيك عن أنها تزعمت البلاد لفترات طويلة، حققت خلالها لمواطنيها الكثير من المنجزات التنموية والصناعية، وتخلصت أثناءها من أحزاب وتنظيمات أصولية متطرفة كانت تنشد طَلبَنة بنغلاديش.
وهاهي العاصمة “دكا” تعود إلى ما يشبه ساحة حرب بين أنصارها وخصومها، بمجرد أن أصدرت “محكمة الجرائم الدولية” البنغلاديشية المؤلفة من ثلاثة قضاة برئاسة القاضي محمد غلام مرتضى مزمدار، حكما بإعدام الزعيمة السابقة بعد إدانتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في إشارة إلى قيامها بقمع تظاهرات طلابية ضد نظامها في يوليو وأغسطس من عام 2024، ما أدى إلى مقتل 1400 شخص طبقا لتقارير المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان. وهكذا، فبدلا من أن تسعى الحكومة الحالية إلى لملمة الجراح واستعادة الوحدة والأمن والإستقرار بعد أعوام من الفوضى والمماحكات السياسية، وتشرع في إقامة نظام ديمقراطي جديد يلبي طموحات الملايين من السكان في النهوض والتنمية المستدامة، فقدت البوصلة وغلبت عليها النزعة الانتقامية.
لا يعني هذا الكلام الانتصار للشيخة حسينة والمطالبة بتبرئتها، فهي لها ما لها وعليها ما عليها، وجزء من سياستها القمعية كان ردة فعل لسياسات خصومها الذين حرضوا ضدها وأشعلوا الشارع بالإضرابات والاعتصامات والحرائق خلال العام المنصرم. وإنما الأمر يتعلق بضرورة الاحتكام إلى العقل والمنطق واللجوء إلى خيارات تطفئ الحرائق ولا تزيدها إشتعالا. فالمتهمة في أول تعليق لها من منفاها الهندي على حكم إعدامها، نفت أنها أصدرت أوامر بقتل الطلبة المتظاهرين قائلة: “لا أنا ولا أي من القادة السياسيين أصدرنا أوامر بقتل المتظاهرين”، واصفة المحكمة التي حاكمتها بأنها صورية وأحكامها صادرة عن شخصيات متطرفه تكن لها الضغائن وتتبع حكومة مؤقتة وغير منتخبة دستوريا، وذات دوافع وخلفيات انتقامية.
ينقسم المراقبون والمتخصصون في الشأن البنغلاديشي حول حكم الإعدام غير المسبوق بحق زعيمة سابقة للبلاد. فبعضهم يراه حكما عادلا طال انتظاره للتخلص من “سيدة عاثت فسادا وارتكبت أخطاء جسيمة في إدارة البلاد ومقدراتها”، والبعض الآخر يراه حكما خطيرا مغلفا بدوافع انتقامية لن يؤدي إلإ إلى المزيد من المتاعب والإنقسامات الحادة.
وما بين هذا وذاك تراقب حكومات دول الجوار (الهند وباكستان والصين) المشهدَ دون تعليق حتى لحظة كتابة هذا المقال. والمعروف أن الدول الثلاث معنية بتطورات الأحوال السياسية في بنغلاديش، كون الأخيرة تمثل رقما مهما في المعادلات السياسية والجيواستراتيجية في شبه القارة الهندية والمحيط الهندي.
فالهند، التي ساعدت البنغلاديشيين في تأسيس دولتهم المستقلة عن باكستان على إثر “حرب البنغال” سنة 1971، تعتبرها ضمن نطاق مصالحها الاستراتيجية، وهي حريصة في الوقت نفسه على وجود حكومة علمانية غير متطرفة في “دكا”، لا تعاديها ولا تضر بمصالحها. بينما تسعى باكستان إلى استعادة روابطها القديمة مع بنغلاديش، التي كانت جزءا من كيانها المسلم منذ 1948 وحتى 1971، والتحالف معها لمواجهة عدوتها الهندية اللدودة. أما الصين، التي تتودد لها حكومة يونس الانتقالية من أجل المساعدات، فتحاول التواجد بقوة في بنغلاديش خدمة لمخططاتها وطموحاتها المتمثلة في مبادرة الحزام والطريق، وخدمة أيضا لباكستان ونكاية بخصمها الهندي.
والحقيقة أن تواجد الشيخة حسينة في الهند تحت حماية حكومتها أزعج حكومة يونس في “دكا”. وقد تشهد العلاقات الهندية ــ البنغلاديشية احتقانات لا تستطيع “دكا” التعايش معها فيما لو طلبت الحكومة البنغلاديشية من نظيرتها الهندية تسليمها الشيخة حسينة لتنفيذ حكم الإعدام فيها، وكان رد نيودلهي هو الرفض.
وبعيدا عن جدلية الصواب والخطأ في الحكم الصادر ضد حسينة، فإن الحكم يرسي سابقة خطيرة وهي أن القادة السياسيين مسؤولون جنائيا عن سلوك قوات الأمن أثناء الإضطرابات المدنية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
