يعود أحمد بيضون “في مهبّ النكبة اللبنانية” إلى اشتغاله بالمسألة اللبنانية(*)، بعد أن حاول “أحياناً” على ما يقول: “التشاغل (عنها)، بهموم ومَتَع تُسايِرُ مزاجي وبعضَ خبرتي”، وأثمرت هذه العودة كتاباً ضم ستين مقالة كُتبت على مدى عقد ونصف عقد وموزّعة على خمسة أقسام، وسوف نعتني في قراءتنا هذه على القسم الأول فقط المعنون “نظام”.
يؤرخ بيضون في مقالته الأولى من هذا القسم لـــ“مائة عام من طائفية الدولة” منذ نواتها الأولى في نظاميْ القائمقامتيْن والمتصرفية إلى يومنا، مفنّداً ما هو شائع عن وجود “ميثاق وطني” شفهي أو مكتوب ينص على المبدأ الطائفي لتنظيم الدولة، وملاحظاً – من بين ما يلاحظ – أن تمثيل الطوائف في مؤسسات الحكم قبل الحرب الأهلية (1975 – 1990) اتّسمَ بما يدعوه “السلاسة والمرونة” المترتبتين على التوازن الرجراج بين زعامتين أو أكثر في كل طائفة، وهما ما “فقدهما النظام الطائفي إلى غير رجعة في أعوام الحرب الأهلية المديدة”، ما آلَ في نهاية المطاف – بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005 – إلى “تعدّد القوى الطائفية المهيمنة التي أخذ لا يمكن الإستغناء عن أي منها من الحكم ولا يمكن اتخاذ قرار ذي أهمية من غير إجماعها عليه”.
{أحال الانفاق الوطني إلى مَنهَبة أو إلى “مُناهَبة”تتبارى فيها عدة أطراف في النظام الطائفي}
فقد أدّت “حقوق النقض المتقابلة” بين ممثلي الطوائف و“ذواء التحكيم” الذي كان يمكن لرئاسة الجمهورية أن تقوم به، إلى “احتمال تعطُّل القرار الوطني وتعطيل هذه أو تلك من مؤسسات السلطة الدستورية أو إفراغها”، لا بل أن المعارضة السياسية، بحكم هذا المنطق، قد أُلغيت أو هي أصبحت تُمارس مداورةً بين أطراف الحكم نفسها.
أضف أن هذا النظام قد أحال الانفاق الوطني إلى مَنهبة، أو بكلمة أدق، إلى “مُناهبة” تتبارى فيها عدة أطراف في النظام الطائفي في نهب المال العام. فقد استقرت منذ عام 2005 صيغة للحكم في البلاد حاضنة لنظام المُناهبة، وهي “صيغة التمثيل الجامع، في الحكم، للقوى التي “لا يُستغنى عنها” واعتماد الإجماع مبدأً لها في الممارسة، يكفله حق النقض المتبادل”، وفرضت هذه الصيغة ما يدعوه بيضون “مبدأ التناظر الطائفي” في توزيع الأنصبة النسبية من المال العام وترجمته في الموازنات العامة، ومبدأ التناظر هذا، بصفته الطائفية، هو المفضي إلى ما يُسمى المُناهبة التي “تضع لبنان، دولةً ومجتمعاً، على سكة الإنهيار العام”(*).
بكلام آخر تموِّلُ الدولة – بآليات الفساد المعروفة – الانفاق السياسي الجاري للقوى والزعامات الحاكمة، وتموّل أيضا جانباً (على الأقل) من نمو الثروة الشخصية لزعماء معروفين، وهو ما يُدعى بالمناهبة. وذلك هو “الفساد الأعظم” الذي سيفضي عاجلاً أم آجلاً إلى “دمار الدولة والبلاد”.
ولكن الأهمّ أن هذا التحوّل “آخذ بدوره في نوع من الذواء والتهالك”، بمعنى أن “الجاري تهالك في الداخل اللبناني كله، في درجة قيامه بذاته، وإحكام قبضه على زمامه، طوائف وطائفية”، حيث باتت مقاليد البلاد ماثلة في أيدي قوى العالم والمحيط المتصدّرة، وبكلمة حلّ بالداخل اللبناني كله، دولةً وطوائف، “تهافت”، أو “تهاوٍ”، أو “تهالك” الفاعلية السياسية للطوائف، “شاملاً الحزب الشيعي المسلح” وهو ما يقابله “إسلاس القيادة الإلزامي للقوة الأميركية راعية إسرائيل وشريكتها الكبرى”.
{يكون تصلُّب أهل النظام المميت نذيراً بإنهيار معمَّم لا نعرف مداه ولا مدّته}
كل هذا وغيره هو ما يدعوه بيضون بـــ“النكبة اللبنانية”، وهو “ما حدا بشطور راجحة من اللبنانيين إلى الخروج فجأةً. ليعلنوا وفاة النظام الطائفي في نفوسهم وفي الشوارع والساحات”، “فهل يكون هذا الخروج الكبير قادراً على فرض التغيير الكبير أم يكون تصلُّب أهل النظام المميت نذيراً بإنهيار معمَّم لا نعرف مداه ولا مدّته”.
والخلاصة أن جذر “النكبة اللبنانية” الجارية سياسي اجتماعي ويعدُّ البعد الاقتصادي المالي منها فرعاً لهذا الجذر، وهو “داخلي” بالدرجة الأولى، نما في تربة النظام الطائفي، وإن يكن للإلزامات الخارجية وقع شديد على حركته… وعليه “يكون العلاج الواجب، إذا وُجد علاج، مشروطاً بإتخاذ النظام الطائفي غرضاً للنقض وباعتماد الإصلاح السياسي شرطاً لإستقامة السبل الأخرى للإصلاح وإفضائها إلى غاياتها”.
غير أن أحمدَ في ثنايا مقالاته يعتريه “إحساس باستعصاء نكبتنا هذه على العلاج”، وبلغ به هذا الإحساس في “تقديم” الكتاب – وهو أحدث ما كتب عام 2025، ويعكس “مزاجه” الراهن – مبلغاً من التشاؤم بحالة لبنان حد وصفها بأنها “نكبة تامة الأوصاف وأن هذه النكبة لا تزال مفتوحة مع ذلك، لا يظهر لها آخر”، أو أنها نكبة “باتت عصية على العلاج”.
ما العمل إذاً؟ “لا يؤمل أن يتزحزح هذا العبء الثقيل عن كواهلنا ما لم يزحزحه تغيير جسيم في الحبكة الإقليمية الدولية”، وهو “تغير لا يعلم أحد إن كان سيحصل ولا متى”.
{النظام ما زال حياً، لا بل يتسم بالحيوية في “نصوص” أحمد على الأقل}
في الختام، يتراءى لي – مع اقتناعي بمعظم تشخيصات أحمد بيضون لنظامنا الطائفي – أن هذا النظام لم يتوفّ في “نفوس شطور راجحة من اللبنانيين” ولا هو في حالة “موت سريري” على ما كتب في مقالات سابقة، وأحد أدلتي على ذلك كثافة اهتمام أحمد في كتاباته كلها بحوادث هذا النظام وظواهره، مما يوحي أن هذا النظام ما زال حياً، لا بل يتسم بالحيوية في “نصوص” أحمد على الأقل – وهو من هو في عمق بصيرته في أحوالنا – رغم إعلان وفاته في “النفوس”.
صحيح أن صيغة الحكم في لبنان – القائمة على تمثيل الجماعات الطائفية بحصص أو أنصبة محدّدة في مؤسسات الحكم – تُصاب أحياناً بشلل جزئي عند الحاجة إلى اتخاذ قرارات عادية، وأحياناً أخرى بشلل شبه تام عند حلول استحقاقات مهمة، ولكن هذه الصيغة – ومهما طالت فترات شللها – تعاود عملها “الطبيعي” – ولو بفعالية محدودة – بمجرد إنجاز تسوية “متناظرة” بين ممثلي الطوائف شبه الحصريين.
وإذا ما أخذنا بالإعتبار “صمود” هذه الصيغة على امتداد قرن ونصف القرن وانتعاشها المتكرّر المرّة تلو المرّة، لا بل استنساخها أو الاستعداد لإستنساخها في بلدان مشرقية كالعراق وسوريا، لخرجنا باستنتاج قد لا يروق لنا – أنصار دولة المواطنة – إن هذه الصيغة هي “الأنسب” على الأرجح لمجتمع مشرقي تعدّدي لا تزال جماعاته الأهلية تشعر شعوراً قوياً ومتنامياً بذاتياتها أو هوياتها الخاصة، ولتملكتنا القناعة بالمذهب القائل بأن كل ما هو قائم في الواقع معقول أو مسوَّغ عقلياً، مع حق كل ما هو معقول – كدولة المواطنة – أن يصبح واقعاً.
الناشر: دار رياض الريس
الطبعة الاولى 2025


قرأت في مقال بكداش عرضا أمينا لما كتبه الاستاذ بيضون كنت اتمنى لو تجاوز بكداش العرض إلى تقديم قراءة لكتاب بيضون .