مما لا جدال فيه أن الهند تجد نفسها اليوم في موقف صعب فيما يتعلق بعلاقاتها البينية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا.
فالأولى شريكتها التجارية والسياسية الأهم في آسيا، ومصدر الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة الحديثة، وحليفتها في مجموعة “قواد” الأمنية، والقوة المتحكمة بنظام المدفوعات العالمي، أما الثانية فهي حليفتها الاستراتيجية طوال حفبة الحرب الباردة، وشريكتها في مجموعة “بريكس”، ومصدر نحو 45% من معداتها العسكرية من الغواصات والمقاتلات وأنظمة الصواريخ، ناهيك عن أن القوات المسلحة الهندية مرتبطة بالصيانة وقطع الغيار الروسية، أضف إلى ذلك حاجة الهند إلى النفط الروسي الرخيص. وعليه فإن الإختيار بينهما أمر في غاية الصعوبة ويشكل معضلة لصانع القرار السياسي في نيودلهي.
ويقال أن رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي يحاول جاهدا التوفيق بين أهداف متعددة ومتصادمة مثل: تخفيف الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع الهندية، والحصول على النفط الروسي منخفض السعر، واستمرار شراكة بلاده الدفاعية مع روسيا، وتزويد جيشه بأسلحة وتكنولوجيات أمريكية متطورة، والحفاظ على الوجه المستقل لسياسة بلاده الخارجية أمام الناخبين الهنود. فهل سينجح؟
بدأت معاناة الهند في أعقاب قيام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 22 أكتوبر 2025 بفرض عقوبات شاملة على أكبر شركتين روسيتين للنفط وهما “روس نفط” و”لوك أويل”، ومعاقبة أي شركة أو مصرف أو مؤسسة تأمين أجنبية يتعامل معهما، تحت طائلة عزل المخالفين عن الأسواق الأمريكية والنظام المصرفي العالمي.
والمعروف للقاصي والداني أنه منذ بدء الحرب الأوكرانية ــ الروسية برزت الهند كواحدة من أكبر مستوردي النفط الروسي، حيث ارتفعت وارداتها من الخام الروسي من أقل من 100 ألف برميل يوميا في أوائل العام 2022 إلى نحو 1.8 مليون برميل يوميا خلال العام الجاري.
إن جاذبية النفط الروسي الرخيص بالنسبة للهند تتجلى في حقيقة أن سعر البرميل الخام منه يقل بعشرة أو عشرين دولارا من أسعار النفط العالمية، وهو ما يوفر للخزينة الهندية مليارات الدولارات سنويا، ويساعد في الوقت نفسه على استقرار أسعار الوقود محليا، وأسعار الروبية الهندية. وعليه حققت شركات التكرير الهندية مثل “ريلاينس إندوستري” و”نايارا إنرجي” أرباحا مجزية من استيراد الخام الروسي وتكريره محليا، بل وإعادة تصدير بعضه مكررا إلى أوروبا. غير أن العقوبات الأمريكية المذكورة لم تترك أمام الهنود وغيرهم مجالا سوى إعادة النظر في تعاملاتهم الروسية.
من ناحية أخرى، تفاقمت معاناة الهند بعد تحذيرات ترامب من أنه سيفرض رسوما جمركية باهظة على الهند حتى تتوقف وارداتها النفطية من روسيا تماما. ومما لاشك فيه أن فرض رسوم جمركية بنسبة 50% (كما هدد ترامب) على صادرات الهند إلى الأسواق الأمريكية سيلحق ضررا بالغا بالمصدرين والمصنعين الهنود، وبالميزان التجاري بين البلدين (تشير البيانات الرسمية الخاصة بشهر سبتمبر الفائت إلى انخفاض فعلي في صادرات الهند إلى الولايات المتحدة بنسبة 20%).
وعلى الرغم من كل ما يتردد حول قرار هندي بالخضوع للإملاءات الأمريكية حول النفط والتجارة، بما فيها مزاعم ترامب بهذا الشأن، فإنه لم يصدر بيان رسمي من حكومة مودي يؤكد ذلك حتى الآن، بل أن وزير التجارة الهندي “بيوش جويال” خاطب مؤخرا مؤتمرا في العاصمة الألمانية بنبرة تحدي قائلا أن بلاده “لن ترضخ أو تبرم أي صفقة مع واشنطن تحت التهديد والوعيد”. غير أن المراقبين فسروا موقف الوزير الهندي بأنه يدغدغ عواطف مواطنيه، ومنهم نسبة كبيرة من المتعاطفين مع موسكو والحانقين على واشنطن، وأن نيودلهي سوف ترضخ في نهاية المطاف لأن ليس أمامها خيار آخر، مشيرين إلى أن واشنطن ونيودلهي قريبتان من التوصل إلى إتفاق يقضي بخفض الرسوم الجمركية الأمريكية إلى 15% مقابل قيام نيودلهي بخفض وارداتها من النفط الروسي تدريجيا واستبداله بنفط شرق أوسطي. هذا علما بأن هذا الاستبدال المتوقع سوف يضيف ما بين مليار و1.5 مليار دولار شهريا إلى فاتورة واردات الهند النفطية، وقد يُضعف الروبية ويفاقم عجز ميزانيتها.
وأخيرا، هناك من يقول أن نيودلهي سوف تحذو حذو بكين، لجهة التحايل على العقوبات الأمريكية والنظام المصرفي العالمي، فتستمر في شراء النفط الروسي الرخيص دون مبالاة بالتهديدات الامريكية، وتسوي مدفوعاتها عبر وسطاء غامضين، وهذا حل بديل لكنه محفوف بالمخاطر ويعقد العلاقات الأمريكية ــ الهندية، خصوصا وأنها تشهد توترا غير مسبوق، ليس على خلفية النفط والتجارة فحسب، وإنما أيضا على خلفية عزم نيودلهي على توقيع صفقة بقيمة 1.2 مليار دولار مع موسكو لشراء أنظمة دفاع جوي إضافية من طراز “إس 400″، وهو ما تعتبره واشنطن عونا ماليا يساعد روسيا على استمرار حربها في أوكرانيا.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
