وكأن الزمن طوي في لحظة واحدة!
فتحوّلَ لبنان من البلد المنصة لتهريب المخدرات إلى العالم، إلى بلد يكافح المخدرات بكل السبل من ضبط شحنات التهريب إلى المداهمات التي طالت مناطق حساسة كانت محظية أمنيًّا بتغطية من حزب الله كـ”حي الشراونة” في منطقة بعلبك في البقاع الشمالي، إلى توقيف كبرى العصابات المصنعة للمخدرات كالبتاغون والهيرويين وتوضيب حشيشة الكيف (القنب الهندي). وكأن أنفاس الأمن الوقائي والأمن الردعي قد استعيدت من جديد لتفكيك معامل تصنيع السم الأبيض وإلقاء القبض على مالكيها من آل زعيتر والمصري وجعفر وغيرهم.
تبدلت الإستراتيجيّات الأمنية من المكافحة إلى التفكيك، وكأن قرار تصفير المناطق هذه من آفة المخدرات قد أُخذ، ليس بسبب الوعي أو الحرص اللذين ولدا فجأة، بل لأنَّ عرّابي إمبراطورية الكبتاغون والمخدرات قد سقطوا من بشار الأسد وصولًا إلى حزب الله وما تعرض له بعد خلع نظام بشار الأسد والحرب الأخيرة التي أدت إلى مقتل قادة الصف الأول وإضعاف قدرته على الهيمنة على الحدود والمعابر الشرعية وغير الشرعية.
لمَ البقاع الشمالي؟ سؤال يحمل إجابتين: غياب الدولة عن هذه المناطق حوّلها إلى بؤر تسيطر عليها العشائر التي اتخذ البعض منها من تصنيع والاتجار بالمخدرات وسيلة للعيش. ومع اندلاع الحرب في سوريا في العام 2011، وإطباق قوانين العقوبات على نظام بشار الأسد قرر الأخير الانتقال إلى تمويل نفسه ونظامه وأعوانه من المخدرات، فكان لتداخل المناطق السورية مع اللبنانية على الحدود الشمالية الأرض الخصبة، التي سهلت بناء مصانع المخدرات والتوضيب والتهريب، حيث تولى ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد قائد الفرقة الرابعة، بالتعاون مع حزب الله، هذا الملف، حتى حوّل مناطق بأكملها لمصانع للكبتاغون وآخرها قرية “طفيل” اللبنانية التي تقع ضمن الأراضي السورية، والتي تولى ملك الكبتاغون “حسن دقو” إدارتها. والأخير أوقف في العام 2021، على خلفية تهريب شحنة الرمان المحملة بحبوب الكبتاغون إلى المملكة العربية السعودية.
بين ملك الكبتاغون وإسكوبار المخدرات في لبنان، الولاء لحزب الله وبشار الأسد
أوقفت مخابرات الجيش اللبناني في 20 نوفمبر من العام الحالي “نوح زعيتر”. التوقيف جاء على خلفية النهج الذي تتبعه الدولة اللبنانية لتنفيذ كل المطلوب منها دوليًّا بشكل عام، وخليجيًّا على وجه الخصوص، على صعيد ملف مكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات، لتتوج بعملها هذا حسن النوايا بأن لبنان سيقفل الصفحة المشؤومة من تاريخه، التي سطرها زعيتر ودقو وهما الاسمان البارزان في عالم المخدرات في لبنان.

ارتبط حسن دقو وفقًا لمحضر اعترافاته أمام فرع المعلومات في لبنان بثنائية الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد وبحزب الله، وبين سوريا ولبنان تنقل بين عالم المخدرات والاتجار بالسلاح والسرقة والسلب. أما نوح زعيتر فسجلّه شبيه بدقو حتى أنه جاهر بالقتال لمصلحة حزب الله في الزبداني مستكملًا حرب الإبادة التي خاضها الحزب ضد الشعب السوري ومفاخرًا بذلك في فيديوهات عرضت على أنه الآمر في الزبداني استجابة لطلب الأمين العام لحزب الله آنذاك حسن نصر الله.
وفي العام 2023 أدرج مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية أوفاك كلًّا من نوح زعيتر وحسن دقو وشخصيات مقربة من بشار الأسد على لائحة العقوبات بسبب الاتجار بالمخدرات لا سيما الكبتاغون، ودعمهم لنظام بشار الأسد وارتباطهم بحزب الله. وقد اتبعت الحكومة البريطانية المسار نفسه حيث أدرجتهم أيضًا على لائحة العقوبات إلى جانب شخصيات أخرى مقربة من بشار الأسد آنذاك. وقد قُدّرت عائدات الكبتاغون لدى النظام السوري يومها بـ 57 مليار دولار أي ما يقارب 3 أضعاف تجار مخدرات كل الكارتيلات المكسيكية معًا، كما قدرتها الحكومة البريطانية بأنها تمثل 80% من إمدادات العالم من هذا المخدر.
لبنان والإستراتيجية الخليجية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات
أقرت دول مجلس التعاون الخليجي إستراتيجية لمكافحة المخدرات 2025-2028، وقد جاءت هذه الإستراتيجية لتكون بمثابة إطار شامل ومتكامل لتوحيد جهود دول مجلس التعاون في مكافحة المخدرات. كما أن دول المجلس سعت من خلالها لخلق شبكة متماسكة من التعاون الأمني والتشريعي والتوعوي، وتعمل بلا هوادة لتجفيف منابع هذه الآفة والتصدي بحزم وجزم لمن يستهدف أبناء الخليج ومستقبله.
وتتألف هذه الإستراتيجية من محاور رئيسية تتوزع بين خفض العرض والطلب على المخدرات، وتجفيف المنابع، وتعزيز التنمية البديلة، وتطوير منظومة التشريعات الخليجية، ومكافحة غسل الأموال المتحصّلة من تجارة المخدرات، وإنشاء نظام للرصد الوطني المشترك، والتدريب، وبناء القدرات. غاية هذه المحاور هي تحقيق التكامل بين الأبعاد الوقائية والأمنية والعلاجية بما يضمن التصدّي الفعّال لكل أوجه هذه الآفة.
إن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى جاهدة للتصدي بكل ما أوتيت من أدوات لهذه الآفة. فهي تهدد منطقة الخليج العربية بنسب تفوق ما تتعرض له سائر دول العالم، والسبب في ذلك يعود للموقع الجغرافي الإستراتيجي والمستوى الاقتصادي للدول وللفرد والذي يتقدم على سائر بقية الدول. فضلًا عن الطفرة بالتسهيلات للسفر والإقامة في هذه الدول والميزات التجارية التي تتمتع بها.
وللأسف كان لبنان منصة لتهريب المخدرات والكبتاغون لدول الخليج. وهذا ما دفع السعودية في العام 2021 إلى حظر الصادرات من لبنان بعد رصدها ملايين حبوب الكبتاغون المخبأة في الرمان وغيره من الصادرات، التي أتت من لبنان وضبطها الأمن السعودي، وقد خرجت من مرفأ بيروت. من هنا الرادع الأمني والوقائي لحماية المجتمع الخليجي ودرء الخطر عنه.
لذلك، وتقديرًا للجهود المبذولة في لبنان، جاء الوفد السعودي إلى لبنان للبحث في سبل تعزيز التعاون التجاري من جديد، بعدما أثبتت الحكومة اللبنانية نية عالية ترجمتها بجهود مبذولة في مكافحة المخدرات، ما يعني أنّ الأمن الوقائي الخليجي ضد المخدرات هو الخطوة الأولية التي تسعى لها السعودية ودول مجلس التعاون الأخرى، من خلال دفع الدول إلى تفعيل أفضل العلاقات التجارية، ما دامت هذه الدول الأطراف تطبق أحكام القانون في سبيل مكافحة المخدرات ومنع أن تكون منصة للتصنيع المخدرات وتهريبها منها إلى دول مجلس التعاون.
ولبنان نجح في الخطوات الأولى من المهمة بعدما توافرت الظروف الملائمة لذلك، فهل يستمر حتى ختم الملف المشؤوم في تاريخ العلاقات بين لبنان ودول العالم لا سيما الخليجية منها؟
