(الصورة: الحدود الجزائرية المغربية مغلقة مند العام 1994 بقرار من الرئيس الأُمّي “الأمين زروال” وقبل ذلك مغلقة بين 1975 و1988) (الشفاف)
°
لم يعد الحديث عن استقرار شمال أفريقيا مجرد إشارة إلى اضطرابات عابرة، بل تحوَّلَ إلى دلالة على تآكل منهجي وانهيار تدريجي لمشروع الدولة الحديثة في المنطقة. إن ما نشهده هو نتيجة منطقية لعقود من الفشل المؤسسي في تجديد “العقد الاجتماعي”، حيث أدى هذا الفشل إلى توليد “أزمة جيل وجودية” تُهدد الآن بعواقب لا رجعة فيها على الأمن والاستقرار في غرب المتوسط. هذه القراءة ترصد العلاقة السببية والآليات التي تحوّل الإحباط الداخلي إلى تهديد استراتيجي.
الانهيار المؤسسي.. تكلفة التنمية المُضلَّلة
إن الشرارة الفعلية للاضطرابات تكمن في الإحباط الاقتصادي المُعلَن لجيل الشباب، الذي يمثل نقطة التقاء للفشل المؤسسي المُتراكم:
الإحصاءات كـ”دليل اتهام”: أزمة البطالة والفقر
تُعَدُّ الإحصاءات المتعلقة بالبطالة والفقر دليلاً على عجز هيكلي في الحوكمة. في دول مثل المغرب، حيث تجاوزت معدلات البطالة بين الفئة العمرية تحت 24 عاماً 30%. يُشير هذا الرقم إلى فشل الاقتصاد في استيعاب رأسماله البشري. هذا العجز يتفاقم في تونس، مُولِّداً ظاهرة “الانتظارية” (Waithood)، حيث يتم حرمان الشباب من فرصة بناء حياة مستقلة بسبب انسداد آفاق العمل والفساد.
وبالتوازي، أدى تآكل الطبقة الوسطى وتفضيل “الإنفاق الاستعراضي” على حساب البنية التحتية الاجتماعية إلى تدهور حاد في الرعاية الصحية والتعليم. هذا التدهور يُفقد الدولة أهم أدواتها للشرعية ويُكرِّس اللامساواة، حيث تصبح الخدمات الأساسية امتيازاً مرهوناً بالقدرة المالية بدلاً من أن تكون حقاً. حراك “GenZ 212” في المغرب لم يطالب بـ “وظيفة” بقدر ما طالب بـ “إعادة توجيه المشروع الوطني” ليعكس أولويات المواطن.

أزمة الشرعية والمناورة الإعلامية
في مواجهة هذا الغضب، شهدت المنطقة جهوداً حكومية تضمنت وعوداً بالإصلاح، لكنها تزامنت مع تكتيكات لـ “إدارة السردية” (Narrative Control). حيث أفادت تقارير حقوقية عن مصادرة هواتف المحتجين وحملات للتكتم الإعلامي لمنع توثيق الاحتجاجات، بالتوازي مع إنشاء أنظمة لمكافحة الأخبار المضللة. هذا التناقض يُبقي على أزمة الشرعية الحكومية مفتوحة، ويُكرس عدم الثقة، مما يُضعف أي محاولة للإصلاح الحقيقي ويُبقي سيناريوهات التصعيد واردة.

الجمود الإقليمي وتدمير فرص التنمية المستدامة
تُضاعف التوترات الجيوسياسية من الأزمة، حيث يتم توظيفها كـ”آلية دفاع سياسية” لإدامة الفشل الداخلي على حساب التنمية:
التنافس المغاربي وتآكل الموارد
إن التنافس الإقليمي الحاد بين المغرب والجزائر يُعد أكبر مثبط للتكامل والتنمية في المنطقة المغاربية. هذا التنافس ليس مجرد خلاف حدودي، بل أصبح استراتيجية لتشتيت الانتباه عن الإخفاقات الداخلية. وتظهر التكلفة بشكل واضح في الإنفاق العسكري المتزايد الذي يستهلك مليارات الدولارات سنوياً كان يجب توجيهها لمشاريع حيوية لمواجهة التحديات الوجودية المشتركة، مثل الاستثمار في تحلية المياه والطاقة المتجددة. هذا الجمود يُقضي على أي فرصة لتحقيق تكامل اقتصادي يخدم فرص عمل الشباب.
ليبيا ومفارقة النمو النفطي تحت الفوضى
تُقدم ليبيا مثالاً صارخاً على أن الثروة وحدها لا تشتري الاستقرار. فبالرغم من الإيرادات النفطية، فإن الانقسام السياسي والفساد الواسع والسيطرة الميليشياوية يُحاصر النمو المتوقع. هذا النموذج الاقتصادي الريعي الفاسد يُبقي على البطالة مرتفعة ويُحول دون توزيع الثروة، ما يجعل الاستقرار هشاً ومصدراً دائماً لـ”التهديد بالانفلات الأمني” عبر الحدود، الأمر الذي يضع ضغوطاً أمنية على دول الجوار مثل مصر.
الارتدادات الجيوسياسية على الأمن المتوسطي
يُحوّل هذا الفشل الهيكلي شمالَأفريقيا من شريك أمني محتمل إلى مصدر دائم لـ”الارتدادات الجيوسياسية” على أوروبا، مُهدداً مصالحها الاستراتيجية:
الهجرة كـ”سلاح ضعيف” وتغير ديناميكيات الضبط
في ظل انسداد آفاق التنمية، تتحول الهجرة غير المنتظمة إلى الحل الأخير لجيل “الانتظارية”، ما يزيد الضغط على إيطاليا وإسبانيا. الأكثر خطورة هو أن تراجع فاعلية الشركاء في السيطرة على الحدود (نتيجة الاضطراب الداخلي وتراجع الثقة)، قد يُحوّل هذا الملف إلى ورقة ضغط سياسية تستغلها الدول الأفريقية للحصول على تنازلات اقتصادية، مما يُدخل العلاقات الأوروبية-الأفريقية في دوامة من عدم الاستقرار.
المناخ كـ”مُعجِّل كارثي” وتهديد لأمن الموارد
التغير المناخي ليس مجرد ظاهرة بيئية، بل هو “عامل تسريع كارثي” للأزمات الاجتماعية والاقتصادية. الجفاف الحاد يضغط على الموارد النادرة (المياه)، وارتفاع درجات حرارة البحر المتوسط يزيد من احتمالية حدوث عواصف استوائية، ما يُفاقم الأزمات الإنسانية ويزيد من دوافع الهجرة القسرية. هذا التحدي البيئي يضعف قدرة المنطقة على التحول نحو الطاقة الخضراء، وهي الفرصة الأهم لخلق وظائف مستدامة.
تقويض الشراكات الاستراتيجية ومستقبل الطاقة
إن عدم الاستقرار الداخلي يُقوض المصالح الأوروبية الحيوية في تنويع مصادر الطاقة وفي مكافحة الإرهاب. كما أن الفشل في الانخراط الجاد في مشاريع الطاقة الخضراء المشتركة (كإنتاج الهيدروجين الأخضر) يُعد فرصة مهدرة للطرفين كان من شأنها خلق الملايين من فرص العمل المستدامة في شمال أفريقيا، وبالتالي، هي استثمار حقيقي في الأمن المتوسطي المشترك.
إعادة هندسة الحوكمة كشرط للاستقرار
إن مستقبل الاستقرار في شمال أفريقيا يتوقف على قدرة الدول على تجاوز منطق “إدارة الأزمة” إلى “إنهاء الفشل”. وهذا يتطلب إعادة هندسة جذرية للعقد الاجتماعي من خلال:
° الإصلاح المؤسسي والشفافية: إيقاف التعتيم السياسي، ومكافحة الفساد بفعالية، والاستجابة بجدية للمطالب الشبابية بالإصلاح.
° التحول الاقتصادي المزدوج: الابتعاد عن الاقتصاد الريعي نحو اقتصاد إنتاجي مُستدام يستثمر في الرأسمال البشري وحلول التكيف المناخي.
° شراكة أوروبية استثمارية: يجب أن تتجاوز أوروبا الصفقات الأمنية قصيرة الأجل لتشمل دعماً فعّالاً لـ الحكم الرشيد والتنمية الشاملة، كونه الضمان الوحيد لأمنها على المدى الطويل.
إن استمرار تجاهل أزمة العقد الاجتماعي المكسور يعني تحويل شمال أفريقيا من شريك محتمل إلى مصدر دائم لعدم الاستقرار، مما يُنذر بزلازل جيوسياسية قد تُعيد تشكيل المشهد المتوسطي بأكمله.
