إن أزمة مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في ليبيا ليست مجرد نتيجة ثانوية للفوضى السياسية، بل هي استراتيجية بنيوية مُصممة بوعي لقتل العقل النقدي وتكريس الاستبداد المؤسسي. ففي بيئة يفترض أن تكون منارات للمعرفة، تتحول هذه المؤسسات إلى أدوات صريحة للسيطرة السياسية، حيث يتم استنزاف التمويل المحدود المخصص للمعرفة لتمويل الفساد الممنهج، وتجريم كل صوت يدافع عن الحقيقة والنزاهة الأكاديمية.
أولاً: الفساد المالي كأداة لتمويل الجهل
يشكل الفساد المالي في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي العمود الفقري لأزمة قمع الفكر. تتجلى هذه الخيانة للمعرفة في تباين صارخ بين حاجة البلاد للابتكار وضآلة المخصصات، وسوء استخدام الجزء المخصص:
▪︎ ضآلة التمويل الموجهة للمعرفة: تشير المعطيات إلى أن تمويل البحث العلمي من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 0.8%. هذه النسبة الهزيلة، التي تقل بكثير عن المتوسطات العالمية، هي إعلان ضمني لعدم الاهتمام بالمستقبل القائم على العلم.
▪︎ تحويل التمويل إلى “صندوق أسود” للفساد: الأشد خطورة هو أن هذا الجزء الضئيل يُصرف أغلبه على الفساد الممنهج. هذا يعني أن الميزانيات المخصصة لتحديث المختبرات، أو تمويل الأبحاث الحيوية، تتحول إلى قنوات لتغذية شبكات المحسوبية والولاءات السياسية، عبر الصفقات الوهمية والتضخيم في أسعار المشتريات. هذا الواقع يتسق مع تصنيف ليبيا بدرجة 13 من 100 على مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2024، لتحتل المرتبة 173 من أصل 180 دولة.
▪︎ انعدام الإنتاج والابتكار: النتيجة المباشرة لهذه المعادلة هي انعدام الإنتاج العلمي والابتكار. ففي ظل بيئة لا يكافأ فيها الجهد البحثي النزيه، ينهار الدافع للعمل. هذا الواقع يجعل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي تنتج آلاف الخريجين سنوياً، لكنها تفشل في إنتاج معرفة أو ابتكار ذي قيمة مضافة، ما يرسخ التبعية المعرفية ويهدر إمكانيات حوالي 27% من السكان الليبيين من فئة الشباب.
ثانياً: المنهجية المسيسة لقمع العقل النقدي
إن الفساد المالي يجد غطاءه في نظام إداري مسيّس مهمته الأساسية ترويع الأكاديميين وضمان غياب المساءلة. فالنظام الذي يسرق تمويل المعرفة لا يمكن أن يسمح بوجود عقل ناقد ومستقل:
▪︎ تجريم الدفاع عن الحقوق: يواجه الأكاديميون والباحثون الذين يتمتعون بالكفاءة والنزاهة قمعاً ممنهجاً عبر المضايقات الإدارية والأمنية التي تصل إلى التهديد المادي والمعنوي. ويُصنَّف كل من يطالب بحقوقه المادية أو المعنوية، أو يرفض التمييز والعنصرية والتعسف، كـ “مخالف” يستحق العقاب. الهدف ليس إدارة الأفراد، بل تجريم النزاهة والمساءلة، ما يُحوّل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي إلى بيئات غير آمنة للتعليم.
▪︎ المحسوبية والاستبداد المؤسسي: إن المحسوبية في تعيين القيادات الأكاديمية، وغياب معايير الشفافية والجدارة، يضمن أن تكون هذه المؤسسات أداة لتكريس النفوذ السياسي والأيديولوجي. هذا النمط من الاستبداد المؤسسي يهدف إلى ضمان بقاء المؤسسة التعليمية خاضعة، وعاجزة عن تقديم أي نقد أو طرح رؤى إصلاحية مستقلة.
▪︎ هجرة الأدمغة الأكاديمية: في ظل هذا الترويع، يحدث نزيف حاد للكفاءات العالية. ففي غياب الأمان الأكاديمي، يضطر العلماء والباحثون إلى الهجرة (إذ تشير التقديرات إلى وجود آلاف طلاب الدراسات العليا الليبيين في جامعات غربية)، ما يعني أن النظام الأكاديمي يقوم، بشكل غير مباشر، بـ تصدير العقل النقدي والحفاظ على بيئة داخلية خالية من التحدي الفكري.
ثالثاً: الهدف الاستراتيجي الأعمق: تكريس التبعية والجهل
إن استمرار هذا الواقع يدل على أن هناك هدفاً أيديولوجياً أعمق من مجرد سوء الإدارة، وهو دعم الجهل والغباء كركيزة لاستدامة السلطة. عندما تُدمّر أسس البحث والمساءلة داخل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي:
▪︎ ينهار التفكير النقدي: يُحرم المجتمع من الأدوات المعرفية والمنهجية اللازمة لتحليل الواقع السياسي والاقتصادي بشكل عقلاني.
▪︎ يُرسخ الاستبداد: تُؤمّن هذه البيئة قيام جيل من المتعلمين قادر على تنفيذ الأوامر، لكنه عاجز عن مساءلة القيادة أو المطالبة بالإصلاح، ما يخدم مصالح القوى الساعية لـ تثبيت الاستبداد المؤسسي البعيد عن النقد.
إن حماية مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي الليبية ليست مطلباً إدارياً، بل هي خط الدفاع الأخير عن سيادة العقل في مواجهة ثقافة الفساد والقمع. يتطلب هذا الأمر تفعيل آليات مساءلة قانونية واضحة، ورقابة دولية فعالة تضمن أن التمويل القليل المتاح للبحث العلمي يخدم المعرفة وليس الفساد، لعل ليبيا تجد طريقها نحو بناء دولة مستقرة قائمة على الكفاءة والابتكار.
