في اجتماع دوري، لم يخلُ من نقاشات حادة، وتباين في وجهات النظر، طالب “لقاء سيدة الجبل”، الحكومة البنانية، بإعلان خروج لبنان من الصراع العسكري مع اسرائيل.
وجاء في البيان :” في ظل التطورات الأخيرة وبعد قبول “حماس” عرض الاستسلام، وكذلك قبول القيِّمين على القضية الفلسطينية، بوصفهم أصحاب الحق، بمشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في غزة، نتمنى على مجلس الوزراء اللبناني، وعلى فخامة رئيس الجمهورية جوزف عون الذي يترأس جلساته حين يحضر، المسارعة إلى تفكيك الأخطبوط الإيراني العسكري المتمثل “بـ”حزب الله” وإعلان خروج لبنان من النزاع العسكري مع اسرائيل، استنادًا إلى قرار حصرية السلاح الذي يجب أن يطبّق بدون مهل زمنية ولا أعذار بعدما أصبحت كلها واهية، مع الاستمرار في التزام واجبات لبنان العربية والإنسانية لمساندة الحق الفلسطيني، بكل أوجه النضال السياسية والدبلوماسية والإعلامية والفكرية والثقافية”.

بيان اللقاء يمثل اول مطالبة لبنانية بإخراج لبنان من دائرة الصراع العسكري مع اسرائيل، إنطلاقا من جملة معطيات سبقت لبنان اليها دولٌ عربية، والتاريخ ايضا يحفل بشواهد على تفكيك نزاعات عسكرية مزمنة، لم ينتج عنها سوى قتل وتدمير وضمور ثقافي وانتاج انظمة ديكتاتورية تتستر بمقتضيات العداء والحروب لتُحكم قبضتَها على شعوبها فتمنع تقدمها وتطورها الطبيعي.
لعل الرئيس المصري الراحل انور السادات كان اول من اكتشف عبثية الاستمرار في النزاع العسكري مع اسرائيل، بعد حروب سلفه عبد الناصر، حيث كان السادات نائبا له، وحرب العبور التي خاضها السادات مع سوريا وعبر خلالها الجيش المصري خط بارليف الحصين. إلا أنه ووجه، بعد ان حقق انتصاراته الميدانية، بجسرٍ جوي عسكري من واشنطن ومعظم الغرب الى اسرائيل، جسر حمل كل حاجات اسرائيل العسكرية من معدات حديثة وجنود شاركوا الى جانب الجيش الاسرائيلي في مواجهة الجيش المصري، حتى قال السادات يومها إنه “يحارب اميركا واوروبا” وليس إسرائيل”.
أدرك السادات عبثية الاستمرار في الحرب مع اسرائيل، فاتخذ خياراً أربكَ عدوَّه أولا، قبل ان يربك العالم العربي والولايات المتحدة، فأعلن في خطاب في مجلس الشعب المصري في التاسع من نوفومبر تشرين الثاني عام 1977 استعداده للذهاب الى اي مكان في العالم، حتى القدس ليلقي خطابا داخل الكنيست الاسرائيلي.
وفي التاسع عشر من نوفمبر 1977 وصل السادات الى الكنيست حيث القى خطابا من داخل الكنيست الاسرائيلي أثار صدمة في المجتمع الاسرائيلي على المستوى السياسي والشعبي، وأدى في النهاية الى وقف حال العداء العسكري بين مصر واسرائيل، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد حيث استعادت مصر ما كان تبقى محتلا من سيناء، وطابا من بعدها ديبلوماسيا.
واقعة ثانية تم تسجيلها في التاريخ الحديث حين اعلن ميخائيل غورباتشوف نهايةَ الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات.
تاريخياً، يُنظر إلى إعلان نهاية الحرب الباردة على أنه حدث وقع في ديسمبر 1989 في قمة مالطا، حيث التقى غورباتشوف بالرئيس الأمريكي جورج بوش الأب.
في 7 ديسمبر 1988 أعلن غورباتشوف نهاية “الحرب الباردة” فعلياً في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث تعهَّدَ بخفضٍ أحادي لقوات الجيش الأحمر في أوروبا الشرقية.
وفي3 ديسمبر 1989: في قمة مالطا، أعلن غورباتشوف وبوش الأب رسمياً انتهاء المواجهة بين المعسكرين. قال غورباتشوف: “إن العالم يغادر حقبة ويدخل حقبة أخرى… يجب أن يصبح التهديد بالقوة وانعدام الثقة والصراع النفسي والأيديولوجي كلها من الماضي.”
اليوم وبعد ان خرجت “حماس” من الصراع العسكري مع اسرائيل، وفيما المفاوضات السورية الاسرائيلية تسير بخطى حثيثة نحو انهاء النزاع العسكري بين دمشق وتل ابيب، أما آن الأوآن لفض النزاع العسكري بين لبنان واسرائيل؟
لقد دفع لبنان، وما زال، الاثمان الغالية نتيجة انخراطه في النزاع مع اسرائيل.
ففي العام 1948 قاتل الجيش اللبناني نظيرَهُ الاسرائيلي، في حربٍ انتهت الى توقيع اتفاق الهدنة بين البلدين عام 1949 في قبرص.
وبعد العام 1969، وبعد توقيع اتفاق القاهرة وحتى اليوم، تخلت السطات اللبنانية المتعاقبة عن السيادة اللبنانية لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، التي انشأت ما عرف بـ”فتح لاند” جنوب لبنان، وانتهى الى احتلال اسرائيلي للبنان، أخرج منظمة التحرير بمقاتليها من بيروت عام 1982 بالبواخر الى تونس.
ثم تعاقبت المقاومات في جنوب لبنان من المقاومة الوطنية الى المقاومة الاسلامية المعروفة بـ”حزب الله”، لينتهي كل ذلك بالقرار 1701، الذي عمليا انهى ميدانيا اي امكان لاستمرار النزاع المسلح مع اسرائيل، بإبعاد مقاتلي “حزب الله” الى شمال الليطاني، وقرار نزع سلاح الحزب.
لقد حان الوقت لاتخاذ قرار جريء بإعلان انسحاب لبنان من النزاع العسكري المسلح مع اسرائيل، من دون الانغماس لا في التفاهمات الابراهيمية ولا اتفاقيات السلام بل العودة الى اتفاقية الهدنة، المقرة والمعترف بها رسميا في الاممم المتحدة، والتي وقّع فيها الجانب الاسرائيلي على ترسيم الحدود بين البلدين، إضافة الى تعهد لبنان بالوقوف خلف الشرعية الفلسطينية والقرارات التي ستتخذها من اجل ضمان حل الدولتين وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى دولتهم التي بدأت تأخذ حيزا دوليا مع الاعترافات الاخيرة بحقهم بدولة من كندا وفرنسا وبريطانيا.
إن الاعلان عن انسحاب لبنان من النزاع العسكري المسلح مع اسرائيل، سيُحدثُ صدمة في الكيان الاسرائيلي، ويلغي ذرائع تستخدمها اسرائيل للاستمرار في اعتداءاتها اليومية على اللبنانيين، ويعطي السلطة اللبنانية زخما ديبلوماسيا عربيا ودوليا يشكل ضمانةً لحفظ سيادة الدولة اللبنانية على كامل ترابها الوطني.
ولكن هذا الاعلان يشترط اولا واخيرا قدرة الجيش اللبناني والسلطة اللبنانية على تنفيذ ما تعهدت به في خطاب القسم او بيان حكومة الرئيس نواف سلام، ألا وهو حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية دون سواها عملا بمبدأ السيادة المطلقة للدولة وشروط كيانيتها


