أصدرت اللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بيانًا يطلب من الليبيين المسافرين الإفصاح عن أموالهم عبر النماذج الجمركية في المنافذ. هذا الإجراء، الذي يُقدَّم على أنه خطوة نحو الامتثال للمعايير الدولية ومكافحة الجريمة المالية، يثير تساؤلات عميقة حول جدواه وفعاليته، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن الليبي.
من السهل فهم لماذا يُنظر إلى هذا البيان بنوع من الريبة والتشكيك. فالكثير من الليبيين لا يملكون حتى القدرة على تحمل نفقات أبنائهم للعام الدراسي الجديد، فكيف يمكن أن يكون الإفصاح عن الأموال المحمولة محورًا أساسيًا في مكافحة الفساد؟ تبدو هذه الخطوة وكأنها محاولة لإرضاء المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، وإظهار الامتثال للمادة الرابعة، بينما تتجاهل المشكلة الحقيقية التي تكمن في صلب النظام المالي للدولة.
مؤشرات الفساد تدق ناقوس الخطر
الواقع يؤكد أن الفساد في ليبيا ليس مجرد عمليات فردية، بل أصبح منظمًا وممنهجًا تحت غطاء المؤسسات الرسمية. وتُظهر مؤشرات الفساد العالمية هذا التدهور بشكل واضح. بناءً على تقارير منظمة الشفافية الدولية، يمكن تتبع مسار الفساد في ليبيا على النحو التالي:
| السنة | الترتيب | عدد الدول |
| 2003 | 118 | 133 |
| 2004 | 108 | 146 |
| 2005 | 117 | 159 |
| 2006 | 105 | 164 |
| 2007 | 131 | 180 |
| 2008 | 126 | 180 |
| 2009 | 130 | 180 |
| 2010 | 146 | 178 |
| 2011 | 168 | 183 |
| 2012 | 160 | 176 |
| 2013 | 172 | 177 |
| 2014 | 166 | 175 |
| 2015 | 161 | 168 |
| 2016 | 170 | 176 |
| 2017 | 171 | 180 |
| 2018 | 170 | 180 |
| 2019 | 168 | 180 |
| 2020 | 173 | 180 |
| 2021 | 172 | 180 |
| 2022 | 171 | 180 |
| 2023 | 170 | 180 |
| 2024 | 173 | 180 |
إن التركيز على المواطن العادي، الذي لا يملك إلا القليل، يصرفُ الانتباه عن الجرائم المالية الكبرى التي تُرتكب داخل أروقة السلطة. على اللجنة الوطنية والبنك المركزي أن يوجها جهودهما نحو المؤسسات الحكومية التي تحولت إلى أدوات للفساد. يجب أن تكون المعركة الحقيقية ضد من ينهبون المال العام ويغسلون الأموال المنهوبة تحت ستار الشرعية.
السوق الموازي.. مشروع لغسيل الأموال
الحديث عن مكافحة غسيل الأموال في ليبيا لا يكتمل دون الإشارة إلى السوق الموازي، الذي لم يظهر بشكل عفوي، بل تمت “صناعته” كمشروع متكامل. هذا السوق، الذي يبيع العملة الصعبة بأسعار مضاعفة، هو في حقيقته قناة لغسيل الأموال المسروقة من الخزينة العامة. يتم تحويل الأموال المنهوبة من المشاريع الوهمية أو الاعتمادات المزورة إلى عملة صعبة تُباع بأسعار خيالية، ما يضمن تحقيق أرباح هائلة لشبكات الفساد، وفي الوقت نفسه يُلحق الضرر بالاقتصاد الوطني والمواطن الذي يجد نفسه عاجزًا عن توفير احتياجاته الأساسية.
هذه المنظومة المعقدة من الفساد لا يمكن حلها ببيانات إفصاح جمركي. فمن يقومون بالتهريب وغسيل الأموال لا يمرون عبر المنافذ الجمركية كالمسافرين العاديين، بل لديه طرقهم وشبكاتهم الخاصة التي تعمل بعيدًا عن رقابة ىالسلطات.
مكافحة الفساد تبدأ من القمة
إن مكافحة الفساد يجب أن تبدأ من القمة وليس من القاعدة. ما لم يتم القضاء على الفساد الممنهج داخل المؤسسات الرسمية، فإن أي إجراءات أخرى، مثل الإفصاح الجمركي، ستظل مجرد لعبة مكشوفة وواجهة فارغة لاتقدم أي حل حقيقي، بل تزيد من شعور المواطن بالإحباط واليأس من أي إصلاح حقيقي. على الجهات الرقابية أن تُركز على المصدر الرئيسي للفساد: عمليات الاعتمادات المشبوهة، ومشاريع الدولة الوهمية، وشبكات التهريب، وليس على المواطن الذي يحاول بصعوبة تدبير أموره.

حتى امريكا والدول الاوربية تعاني من هذه المشكلة