في سياق الأزمات السياسية والاجتماعية التي تعصف بليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، يبرز مفهوم “التجهيل” كعملية ممنهجة ليس مجرد حالة من الإهمال أو الفوضى، بل كآلية مدروسة لإعادة تشكيل الوعي الجماعي.
يُعرَّف التجهيل هنا بأنه إنتاج وعيٍ زائف يعتمد على التضليل المنظم، حيث يتم استغلال المؤسسات القائمة لإخضاع الأفراد والمجتمع لروايات تُبرِّر الاستبداد والفساد. هذه العملية، مستوحاة من أفكار فيلسوفية مثل تلك التي طرحها أنطونيو غرامشي حول “الهيمنة الثقافية”، حيث تسيطر الطبقة الحاكمة على الأدوات الثقافية والتعليمية لفرض إيديولوجيتها، تتجلى في ليبيا من خلال تحويل المؤسسات العلمية والثقافية إلى أدوات لنشر الانحطاط والقمع. ومع ذلك، فإن هذه العملية ليست محلية بحتة؛ إنها مدعومة بدعم دولي، بما في ذلك من الأمم المتحدة، ما يجعلها أكثر خطورة واستمرارية. سأستعرض هذه الأزمة بعمق فكري، مستندًا إلى مؤشرات دولية حديثة، لأُبرِزَ كيف ستؤدي إلى دمار أسوأ للمجتمع الليبي إذا لم يتم مواجهتها.
️️
آليات التجهيل: من المؤسسات إلى الوعي الزائف. يبدأ التجهيل كعملية ممنهجة بتحويل المؤسسات التي يُفترض أنها تحمل راية العلم والثقافة إلى أدوات للتضليل. في ليبيا، الجامعات ومراكز البحث العلمي، والإعلام، والمؤسسات الثقافية، تُموّل بسخاء من قبل السلطات المتنافسة _ سواء في الشرق أو الغرب _ ليس لتعزيز المعرفة، بل لنشر رواياتٍ تبرر الفساد والقمع. على سبيل المثال، في ظل الانقسام السياسي، أصبحت الجامعات أماكن للترقيات السياسية والفئوية بدلاً من الإنتاج العلمي الحقيقي، ما يعزز وعيًا زائفًا يرى في الولاء السياسي بديلاً عن الابتكار والحرية الفكرية. هذا يتجلى في قمع حرية الفكر، حيث يواجه الصحفيون والناشطون مضايقات إلكترونية واعتقالات تعيق دورهم في كشف الفساد وانتهاكات الحقوق. كما أن الإعلام، الذي يُفترض أنه صوت المجتمع، أصبح أداة للتضليل، حيث يُروِّج لروايات تبرر الاستبداد تحت غطاء “الاستقرار”، مدعومًا بتمويلات مشبوهة من صفقات سياسية. من الناحية الفكرية، يمكن مقارنة هذا بمفهوم “الوعي الزائف” عند كارل ماركس، حيث يُخدع الأفراد للاعتقاد بأن مصالحهم تتطابق مع مصالح الطبقة الحاكمة. في ليبيا، يُنتج هذا الوعي من خلال التعليم الذي يركز على التلقين بدلاً من التفكير النقدي، ما يؤدي إلى مجتمع يقبل بالفساد كأمر طبيعي. النتيجة هي انتشار الانحطاط الثقافي، حيث يُقمع الفكر الحر، ويُروج لأشكال الفساد المتنوعة، من الرشاوى إلى الاستغلال السياسي. هذا التجهيل ليس عفويًا؛ إنه ممنهج، كما يظهر في تقارير الأمم المتحدة التي تتحدث عن اعتقالات تعسفية للناشطين والصحفيين، مما يعزز ثقافة الخوف والصمت.
️️
النتائج الملموسة: مؤشرات الانهيار والقمع. تكشف التقارير الدولية عن مستوى “مظلم” من القمع والاستبداد، يعكس نجاح عملية التجهيل. في مجال انتهاك الحقوق، تُشير تقارير هيومن رايتس ووتش لعام 2025 إلى استمرار الاعتقالات التعسفية والتعذيب في مراكز الاحتجاز، خاصة للمهاجرين والناشطين، مع انقسام القطاع القضائي الذي يعيق المساءلة. كما أن تقرير “فريدوم هاوس” لعام 2025 يُصنِّف ليبيا كدولة غير حرة، مع درجات منخفضة في الحريات المدنية والسياسية، حيث يُقمع التعبير الحر ويُسيطر على الإعلام.
أما الفساد، فهو يبلغ ذروته؛ حيث حصلت ليبيا على 13 نقطة فقط في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 (الذي يغطي حتى 2025)، محتلة المرتبة 173 من 180 دولة، بانخفاض عن السنوات السابقة، ما يعكس انتشار الفساد في القطاع العام. هذا الفساد يمتد إلى المؤسسات التعليمية، حيث لا تظهر الجامعات الليبية في التصنيفات العالمية الرئيسية مثل “تايمز هايير إديوكيشن 2025″، باستثناء دخول جامعة طرابلس لأول مرة في QS 2026، لكنها لا تزال في مراتب منخفضة تعكس ضعف البحث العلمي.
في مجال الابتكار، تحتل ليبيا المرتبة 123 في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2025، ما يعكس غياب الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، وتركيز التمويل على السيطرة السياسية بدلاً من التنمية. أما حرية التعبير، فتحتل ليبيا المرتبة 137 في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، مع تحسن طفيف عن السابق، لكنها لا تزال تواجه تهديدات اقتصادية وسياسية تعيق الصحافة. هذه المؤشرات جميعها تعكس كيف يُنشر التجهيل بالقوة، عبر مؤسسات السلطة التي جاءت من صفقات سياسية مشبوهة، مدعومة من الأمم المتحدة التي تركز على “الاستقرار” بدلاً من الإصلاح الحقيقي.
️️
الدعم الدولي: شراكة في الاستمرارية. لا يمكن فهم هذه الأزمة دون النظر إلى الدعم الدولي المفضوح. الأمم المتحدة، عبر بعثتها في ليبيا (UNSMIL)، تدعم عملية سياسية “ليبية القيادة”، لكنها في الواقع تحافظ على الوضع الراهن من خلال دعم مؤسسات جاءت عبر صفقات مشبوهة، مثل تلك المتعلقة بانقسام الشرق والغرب. هذا الدعم، الذي يشمل توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية، يُرى كوسيلة للحفاظ على نفوذ دولي، ما يعزز التجهيل بدلاً من مواجهته. فكريًا، يذكر هذا بأفكار فرانتز فانون في “معذبو الأرض”، حيث يُستغل الاستعمار الجديد (النيوكولونياليزم) لإبقاء الشعوب في حالة جهل وتبعية، مستخدمًا مؤسسات محلية كواجهة.
️️
التنبؤ بالانهيارات: نحو انهيار أسوأ. إذا استمر هذا التجهيل، فإن المجتمع الليبي ومؤسساته سيتجهان نحو دمار أسوأ مما هو عليه اليوم. الوعي الزائف سيؤدي إلى تفكك اجتماعي أعمق، مع زيادة العنف الطائفي والفساد، وانهيار الاقتصاد غير النفطي. الشباب، المحروم من التعليم الحقيقي، سيصبحون أكثر عرضة للتجنيد في المليشيات أو الهجرة غير الشرعية، ما يعمق الفراغ الاجتماعي. فكريًا، يشبه هذا “الاغتراب” عند هيغل، حيث يفقد الفرد ارتباطه بالمجتمع، ما يؤدي إلى انهيار كلي. لتجنب ذلك، يجب إعادة بناء المؤسسات على أساس حرية الفكر والشفافية، بعيدًا عن الدعم الدولي المشروط. وإلا، فإن ليبيا ستظل سجينة وعي زائف يدمر مستقبلها.
