هكذا وخلال سنوات طويلة، اختفت مليارات الدولارات التي قُدّمت دعمًا لفلسطين وأهلها من طرف الدول المانحة، وانتشر الفساد في كلّ شبر من الأرض الفلسطينية التي تخطو فيها السلطة الفلسطينية المنبثقة من «اتّفاقات أوسلو».
يكاد المرء يُصاب بمرض عضال من الملل، إن لم يكن مرضًا مزمنًا من الخجل، وذلك من جرّاء التكرار والاجترار الذي يسم في العقود الأخيرة الخطاب السياسي العربي بعامّة، والفلسطيني على وجه التحديد.
ما على القارئ النبيه إلا أن ينظر في تلك الضجّة الكبرى التي تُثار في هذا الأوان حول مسألة نيّة الإدارة الأميركية الجديدة نقل سفارتها من تل-أبيب إلى القدس. قد يظنّ البعض، على هذه الخلفيّة، أنّ القضيّة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي قد تمّ اختزالهما في هذه الخطوة الأميركية المنوي اتّخاذها. هل هذه هي قضيّة فلسطين؟ وهل هذه هي قضيّة القدس أصلاً؟ أيوجد بها سفارة أميركية أم لا؟
جدير بأن يتذكّر كلّ هؤلاء المتذمّرين ومُحبّري البيانات الآن أنّه، ومنذ احتلال المدينة، لم تنوجد في القدس سفارة أميركية. فهل كان الأمر على ما يرام كلّ هذه الأعوام؟ لماذا، إذًا، يتمّ الآن اختزال الخطاب السياسي الفلسطيني في مسألة ثانوية، لا تقدّم ولا تؤخّر فيما يتعلّق بشأن الوضع القائم في المدينة، وكما هو مُطبّق على الأرض منذ احتلالها؟
إنّ الحقيقة التي يجب ألاّ تغيب عن الأنظار هي أنّ القدس المحتلّة كانت كلّ هذه الأعوام مجرّد خيوط من صوف يحيك منها المتاجرون شالات من الشعارات يلفّون بها أعناقهم في المناسبات التي تتكرّر سنة تلو أخرى. غير أنّه، وفي الوقت ذاته، كان بعض الذين ينتمون إلى ما يُسمّى «قيادات فلسطينية» يحصلون على امتيازات بتزويد الاسمنت والباطون للمستوطنات التي يتمّ إنشاؤها في هذه القدس المحتلّة ذاتها التي يتاجرون. ليس هذا فحسب، بل الحقيقة هي أنّ عشرات الآلاف من العمّال الفلسطينيّين هم الذين بنوا المستوطنات بأيديهم ليس في القدس وحدها بل في كلّ أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
هكذا وخلال سنوات طويلة، اختفت مليارات الدولارات التي قُدّمت دعمًا لفلسطين وأهلها من طرف الدول المانحة، وانتشر الفساد في كلّ شبر من الأرض الفلسطينية التي تخطو فيها السلطة الفلسطينية المنبثقة من «اتّفاقات أوسلو». إنّ الحقيقة التي يحاول الخطاب السياسي الفلسطيني أن يخفيها هي حقيقة مرّة. إذ إنّ هذه السلطة الفلسطينية القادمة من تونس قد جلبت معها كلّ فساد العالم العربي المزمن وأنشأته هنا بذات المقاسات الفاسدة في فلسطين، وما من رقيب وما من حسيب.
إنّ الفساد لا يقتصر على سلطة رام الله وحدها، بل يمتدّ إلى سلطة حماس في غزّة. فلو لم تكن هاتان السلطتان فاسدتين أصلاً لما وصلت قضيّة فلسطين إلى هذا الدرك. ففي كلتا الحالتين هناك طبقة من المنتفعين لا تفكّر بعيدًا عن أرنبات أنوفها، لأنّ تفكيرًا بعيد المدى يقتضي أن تتنحّى هذه الطبقة عن امتيازاتها الاقتصادية والسياسية، وعن ارتباطاتها الفاسدة بالعالم العربي، وبإسرائيل وبسائر العالم أيضًا.
طوال أعوام الاحتلال الإسرائيلي لم يقم الفلسطينيّون ببلورة خطاب سياسي يُجمعون عليه بشأن رؤيتهم للمسير في الصراع والمصير الذي يرغبون أن يكون من نصيبهم. لقد كانت الشعارات هي سيّد الموقف في كلّ شاردة وواردة. وهكذا مرّت الأعوام وازدادت التخبّطات وتراكمت.
وهكذا رأينا أنّ الخطاب السياسي الفلسطيني الذي اختزل النضال الفلسطيني في مسألة القدس والأقصى قد وقع في فخّ اللعبة الاستراتيجية الإسرائيلية. فالقيادات الإسرائيلية المختلفة تعي جيّدًا الحساسية الدينية للمدينة القديمة، ولهذا فهي تستثير الفلسطينيّين بين فينة وأخرى في مسألة الأقصى، ثمّ تأتي ضمانات بعدم المساس بالوضع الراهن فيركن الفلسطينيّون إلى السكينة. ولكن، وخلال هذه السكينة تواصل إسرائيل تكثيف الاستيطان وبناء الأحياء وتوسيعها لتسدّ بذلك الطريق على أيّ إمكانية لإعادة العجلة إلى الوراء.
وهكذا أيضًا، مرّت الأعوام تلو الأعوام أنشأت خلالها سلطات الاحتلال الأحياء الاستيطانية الكبرى التي أحاطت بالقدس من كلّ جانب، وذلك في خطّة بعيدة المدى لغرض فصلها نهائيًّا عن الضفّة الغربية، ولغرض شطر الضفّة الغربية نصفين لقطع التواصل بين الشمال والجنوب بغية قطع الطريق عن إمكانية قيام كيان فلسطينيّ مستقلّ. وفي الحقيقة، لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة سوى خطوة واحدة ضمن هذه الاستراتيجية الكبرى لقطع الصلة بين قطاع غزّة والضفّة، والتركيز على مواصلة تقطيع الأرض في الضفّة عبر تكثيف الاستيطان فيها.
لهذا، فإنّ مسألة وجود سفارة أميركية في القدس أو عدم وجودها ليست هي المسألة الجوهرية. إنّ من ينتفض على خلفية القدس والأقصى فقط، ولا يفعل ذلك على خلفية الاستيطان المكثّف الذي يتغلغل في المدينة والذي يُطوّقها من الخارج هو الخاسر في هذه اللعبة. إذ إنّ المصير الذي ينتظر مدينة القدس العربية هو مصير أشبه بمصير مدينة يافا التي أضحت حيًّا صغيرًا ضمن مدينة تل-أبيب الكبرى. وهكذا ستضحي هذه القدس حيًّا صغيرًا ضمن أورشليم الكبرى.
لقد كنت قد تطرّقت في الماضي مرارًا وتكرارًا إلى هذه الاستراتيجية الإسرائيلية وما ترمي من ورائها. ولكن لا حياة، والأصحّ لا حياء، لمن تنادي.
الحياة، 31 يناير 2017