لا أميل، عادة، إلى تعبير المثقف، وأستعيض عنه، كلما دعت الحاجة، بتعبير “العامل في الحقل الثقافي”. ومنشأ التفضيل أن “المثقف” تعبير ملتبس، ومُثقل بدلالات غامضة نجمت عن فوضى المصطلحات، وعن المكانة الخاصة للمثقفين في القوميات الرومانسية، في المستعمرات السابقة، والمتروبول الكولونيالي على حد سواء.
وبالقدر نفسه أجد ما يبرر تعبير “الحقل الثقافي” بدلاً من الكلام عن الثقافة بالمطلق. فالحقل الثقافي حقل اجتماعي إلى جانب حقول السياسة والدين والاقتصاد. وما نُطلق عليه تعبير الثقافة يشمل، في حقيقة الأمر، كل تجليات النشاط الاجتماعي للإنسان. الحقل الثقافي ليس الثقافة، بطبيعة الحال، ولكنه إطارها الجامع والعام.
وهذا التحديد ضروري فلا وجود لحقل يستقل عن الآخر، وأكثر ما يتجلى التشابك والتداخل بين حقول الدين والسياسة والاقتصاد يمكن العثور عليه في حقل الثقافة. فلكل من الحقول السابقة معايير تتصل بالقيم، والمُثل، وعلاقات التسويق والإنتاج، والعرض والطلب، وكلها تعبيرات ثقافية في التحليل الأخير.
وأجدني، في هذا الصدد، أميل إلى تعريف بيير بورديو للحقل الثقافي كحقل اقتصادي مقلوب. حسب بورديو: في حقل الاقتصاد لا تحتمل معاني الربح والخسارة أكثر من دلالاتها المباشرة، فمَنْ يربح يربح، ومَنْ يخسر يخسر. ولكن الأمر يختلف في الحقل الثقافي فمَن يخسر يربح، وفي حالات كثيرة مَنْ يربح يخسر.
ويمكن التمثيل لأمر كهذا بالقول إن خسارة “المثقف” لحريته أو حياته، أو رفاهية العيش، قد تُسهم في تعزيز رأس ماله الرمزي بوصفه مدافعاً عن قيم تحظى بمكانة خاصة في سلّم المُثل العليا، بينما يمكن “لمثقف” آخر ربح جاه السلطة، ورفاهية العيش، أن يُتهم بخيانة المُثل، وأن يخسر الكثير من رأسماله الرمزي بوصفه بوق السلطان، وخادم السلطة.
وإذا كان ثمة ما يبرر تأويل كلام بورديو عن الحقل الاقتصادي المقلوب، فإن خصوصية الحقل الثقافي مُستمدة من خصوصية علاقته بحقول السياسة والدين والاقتصاد، وحقيقة ما يبذل العاملون والفاعلون فيها من جهد للاستيلاء على الحقل الثقافي، أو التأثير عليه. وهذا يمنح العاملين في الحقل الثقافي رفاهية المفاضلة بين العروض المتاحة في السوق، بقدر ما يفرض عليهم ضرائب أخلاقية ومهنية كثيرة.
ولا جديد إذا قلنا إن المجتمعات الإنسانية عرفت مختلف الحقول منذ العصر الحجري. ولا جديد إذا غامرنا بإمكانية العثور على نموذج “المثقف” على مدار قرون وعصور مختلفة. ولا جديد، أيضاً، في “غيرة” الجماعات القومية من بعضها في السباق على مَنْ اخترع ماذا في الحقل الثقافي ومتى.
الجديد أن مفهوم الثقافة جديد، وينتمي إلى زمن نشوء الحركات القومية، والقوميات، وعمليات التوحيد اللغوي، واكتشاف الطباعة..الخ. وبهذا المعنى “المثقف” جديد، أيضاً، في التاريخ الإنساني. وقد لفت نظري على نحو خاص اعتراض على العودة بظهور مفهوم “المثقف” إلى قضية درايفوس، وجاء في الاعتراض أننا “نحن” العرب لدينا ثقافتنا ومثقفونا منذ قرون بعيدة، الجاحظ مثلاً، ولا نحتاج لنظريات الرجل الأبيض.
والواقع أننا لن نتمكن من الدفاع عن التأريخ لولادة “المثقف” في الأزمنة الحديثة، دون العودة إلى قضية درايفوس، ومقالة إميل زولا الشهيرة “إني أتهم” (على طريقة باختين في الكلام عن ولادة الفرد في التاريخ بوصفها ظاهرة جديدة) ما لم نضع في الاعتبار، ونركز الأنظار على، مفردات من نوع: السياسة، الشعب، المواطن، الجريدة، الرأي العام، والقضاء، والبرلمان. فهذه كلها مفاهيم ذات مضامين جديدة تماماً.
السياسة بوصفها شأناً يخص الشعب. والشعب بوصفه حقيقة مستقلة ومصدر السلطات، والمواطن بوصفه معطى سابقا وصاحب حق ضمني ومكفول (حقوق الإنسان، مثلاً)، والجريدة بوصفها منبر السجال العام ورقيبا على السلطة، والقضاء بوصفه مؤسسة مستقلة وذات سلطان أعلى من السلطان، والبرلمان كمكان يمارس فيه الشعب عبر ممثليه حقه في التشريع بنفسه ولنفسه، ويضفي به ومنه على السلطة شرعيتها. أين هذا كله في التجربة السياسة لإمبراطوريات وممالك النسق السياسي والثقافي العربي ـ الإسلامي؟ وأين هذا كله في ملكيات الحق الإلهي الأوروبية في زمن ما قبل الثورة الفرنسية؟
بمعنى آخر: قضية درايفوس، ومقالة إميل زولا، مجرّد علامة إرشادية اجتمعت فيها تجليات السياسة، الشعب، المواطن، الجريدة، الرأي العام، والقضاء، والبرلمان، وفي اجتماعها، ومنه، وفي سياق الدفاع عن “قيم” جديدة وُلد مفهوم “المثقف” كما عرفه وتداوله، وتسابق عليه، ما لا يحصى من البشر على مدار قرنين من الزمن. ويمكن، بالتأكيد، ولأسباب تتعلّق بعزة قومية وهمية ومتوّهمة، إسقاط مرجعية “المثقف” الفرنسية من الحسبان، والعثور على أمثلة عربية إذا تكلمنا عن الطهطاوي، وخير الدين التونسي، والمنوّرين العرب في القرن التاسع عشر.
وطالما نحن في سياق المرجعيات فإن أوّل ما يستدعي التفكير والتدبير ليس ما هو عربي فينا، بل ما هو فلسطيني فينا، وما يجعلنا فلسطينيين، ويمنحنا حق الكلام في، وعن، “ثقافة” فلسطينية. بمعنى أن كل كلام في الثقافة، وعنها، يستدعي تعريف ما نتكلّم عنه. ولعل أسوأ تعريف ما يجعل من البيولوجيا، ونطفة الإنسان، محدداً للهوية الثقافية. فالجليل، بالمعنى الثقافي، أقرب إلى جنوب لبنان منه إلى غزة، ونابلس أقرب إلى دمشق منها إلى الخليل. وصاحبنا الياس خوري أكثر فلسطينية من “مثقفين” فلسطينيين بحكم شهادة الميلاد. هذا على اكثر مستويات النقاش بدائية.
ولكن إذا انتقلنا إلى مستوى أعلى، وعلى طريقة طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” فإن تعريف الثقافة الفلسطينية يستدعي تعريف والتعرّف على ملامح فلسطين نفسها، والبحث في مكونات هويتها الثقافية، وتجربتها التاريخية، عمّا يمثّل الخصوصية. ولنا عودة.
khaderhas1@hotmail.com
يرد في مقال حسن خضر: « السياسة بوصفها شأناً يخص الشعب…….. والقضاء بوصفه مؤسسة مستقلة وذات سلطان أعلى من السلطان، والبرلمان كمكان يمارس فيه الشعب عبر ممثليه…….. أين هذا كله في التجربة السياسة لإمبراطوريات وممالك النسق السياسي والثقافي العربي ـ الإسلامي؟ وأين هذا كله في ملكيات الحق الإلهي الأوروبية في زمن ما قبل الثورة الفرنسية؟» وهذه المقارنة يمكن أن تثير التباساً خطيراً لأنها تطمس الفوارق التاريخية الأساسية بين « ملكيات الحق الإلهي الأوروبية في زمن ما قبل الثورة الفرنسية »، و »وممالك النسق السياسي والثقافي العربي ـ الإسلامي ». في هذه الأخيرة (ربما مع بعض الإستثناءات العثمانية) لم تنشأ هيئات وسيطة « توازِن » بدرجة أو بأخرى سلطات… قراءة المزيد ..