استراتيجية فلاديمير بوتين الهجومية لا تدلل حكما على تعاظم قدرات موسكو التي يعتمد اقتصادها في الغالب على إنتاج الطاقة وتجارة الأسلحة، بل إن سر قوة روسيا في هذه الحقبة يكمن في ضعف الآخرين.
من عامه العسكري الثاني في سوريا إلى التوتر مع حلف شمال الأطلسي والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، يعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استراتيجية القوة الهجومية في مسعاه لصياغة معادلة دولية جديدة تتبوأ فيها بلاده موقعا متميّزا عبر الاستفادة حتى آخر الخط من الانكفاء الأميركي في عهد باراك أوباما وضعف أوروبا. لكن المخاطر الكامنة وراء هذه العجلة واستسهال الكلام عن بدء الحرب العالمية الثالثة في التلفزيون الروسي الرسمي، يكشفان عن حدود لا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تتجاوزها، وعن احتمال تفاقم الاضطراب الاستراتيجي والشكل الجديد من الحرب الباردة بعد تمركز الإدارة الأميركية الجديدة.
في الميدان السوري، الحقل الأساسي لتطبيقات “استراتيجية القوة الروسية”، لم تكن نجاحات موسكو لتتحقق من دون مراعاة ترتيبات عقدتها مع واشنطن بين سبتمبر 2013 (اتفاق إزالة الترسانة الكيميائية)، وسبتمبر 2015، موعد التدخل العسكري الروسي الكثيف.
من هنا بدأ الخلل لأنه مقابل عاصفة “السوخوي” وأفضل أنواع السلاح الروسي، أتت توافقات المايسترو جون كيري والعرّاب سيرجي لافروف لصالح وجهة النظر الروسية حول سيناريو الحل في سوريا، ولذلك كان مصير اتفاق التاسع من سبتمبر الماضي الفشل، لأنه كان منحازا وغطاء لتسهيل الحسم لصالح النظام.
تبعا لذلك ازدادت حملة التدمير خصوصا في شرق “حلب الشهيدة”، كما وصفها فرنسوا هولاند. ونظرا لانسحاب كيري “المؤقت”، سعت باريس من جديد إلى أخذ زمام المبادرة في الملف السوري، ليس من أجل تسجيل موقف أخلاقي فحسب، بل من أجل هدف سياسي يقضي بمنع سحق الحراك السوري واستكمال التدمير في الأسابيع الأخيرة لولاية أوباما وسط صمت دولي أو موافقة ضمنية، ولم يتردد وزير الخارجية الفرنسي وذهب إلى موسكو في محاولة لتمرير قرار من مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار ومنع استمرار التدمير المنهجي لشرق حلب، وتنازلت باريس عن البعض من نقاط المشروع مثل التلويح بالعقوبات، لكن روسيا التي تصر على لعب دور الخصم والحكم، قامت جريا على عادتها، منذ العام 2011، واستخدمت حق النقض الفيتو للمرة الخامسة في مجلس الأمن الدولي، ولكن هذه المرة لم تنحز إليها الصين في فرض الفيتو واكتفت بالامتناع عن التصويت، ولم تجمع موسكو وراء خيارها إلا أربع دول، ممّا يعني شبه عزلة وعدم تأييد غالبية العالم لموقفها المتمادي في سوريا.
في ظل التلكؤ الأميركي واستمرار التفتيش عن خيارات بديلة تبرز تساؤلات عن جدوى الخطوة الفرنسية. بالطبع لا يكمن هدف فرنسا في كسب مبارزات دبلوماسية داخل أعلى سلطة في النظام الدولي (حصل ذلك أيضا ضد واشنطن عشية حرب العراق وذلك في 14 فبراير 2003، أثناء جلسة الخطاب الشهير لوزير الخارجية الفرنسية الأسبق دومينيك دوفيلبان) وهي التي تستنتج أن فيتو الخمسة الكبار أصبح عقبة بوجه حفظ السلام، لكنها، على الأقل، تسعى من خلال هذا الضغط إلى إحراج موسكو وتحميلها مسؤولية الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا.
ومن هذه الزاوية تمكن قراءة السبب الفعلي لإلغاء زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الخاصة إلى باريس التي كانت مقررة في التاسع عشر من هذا الشهر. وينبري البعض للقول إن هذا الموقف الفرنسي “الأخلاقي” لا محل له من الإعراب في قاموس التوازنات الدولية، وإنه يندرج ضمن حملة علاقات عامة للتستّر على عجز فرنسا وأوروبا والغرب عن مواجهة الاستراتيجية الروسية، لكن رب قائل إن اختفاء القيم والأخلاق في الحسابات والاستراتيجيات يقودنا إلى شريعة الغاب، والأهم أن “الديك الفرنسي” نجح في التشويش على “الدب الروسي” وأزعج اندفاعته وأطلق العنان لحراك إعلامي وسياسي في الوقت المناسب.
بالتزامن مع لقاء لوزان الذي يجمع السبت 15 أكتوبر كلا من لافروف وكيري إلى جانب وزراء خارجية المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر وإيران، وعشية اجتماع ما يسمى “النواة الصلبة لأصدقاء سوريا” في لندن بين كيري ونظرائه من أوروبا، يبرز سباق بين الفرصة الدبلوماسية الأخيرة قبل نهاية ولاية أوباما، واحتدام القتال مع التلويح باحتمال عمل أميركي عسكري محدود أو بتقديم المزيد من الدعم للمعارضة العسكرية للنظام.
إزاء هذه التطورات، يبدو القيصر الجديد محاربا مختالا “واثق الخطوات” ويتصرف كأنه لا يأبه بالضغوط والتداعيات لأنه قبل أن يصبح رئيسا للاتحاد الروسي لأول مرة في العام 2000، حذر في العام 1999 من تراجع موقع روسيا العالمي للمرة الأولى في تاريخها، وفي يناير 2007 هاجم بوتين في مؤتمر برلين للأمن، النظام الدولي أحادي القطب والهيمنة الأميركية على شؤون العالم. وبدأت مسيرة استرجاع الموقع مع حرب جورجيا في 2008، وذلك بالتوازي مع تحديث القوات المسلحة وإعادة هيكلتها بشكل تام، وبينما كانت دول حلف الناتو تقلص من الإنفاق الدفاعي (باستثناء الولايات المتحدة) أصبح الجيش الروسي في الوقت الحالي مجهّزا بشكل أفضل ويملك قدرات قتالية هائلة، لم يملكها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وتزامنت عودة بوتين إلى الرئاسة في 2012 مع بدء الولاية الثانية لأوباما، وانتهز سيد الكرملين فرصة السبات الغربي وتمكن من خلال البوابة السورية والأزمة الأوكرانية من فرض معادلة دولية جديدة يغلب عليها التعطيل والسلبية، وجرت ترجمتها عبر التوتر مع حلف شمال الأطلسي من الجوار القريب إلى البلطيق، سواء بالسعي إلى نشر القوة البحرية عبر مناورات مع الصين في آسيا، أو استعراضات في البحر الأبيض المتوسط، وتمدد استراتيجي من همدان إلى طرطوس، بالموازاة مع دبلوماسية الصداقة مع إسرائيل أو دبلوماسية خطوط الطاقة مع تركيا.
من خلال استخدام الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والتهويل بالقوة الاستراتيجية الصاروخية والنووية تحاول روسيا خلق الانطباع بإمكانية العودة إلى زمن الثنائية القطبية، وهي من خلال الحرب الإلكترونية وأساليب الترهيب من الإرهاب والفوضى العالمية، تراهن على وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عله يكون بوريس يلتسين الولايات المتحدة الأميركية.
لا تدلل استراتيجية فلاديمير بوتين الهجومية حكما على تعاظم قدرات موسكو التي يعتمد اقتصادها في الغالب على إنتاج الطاقة وتجارة الأسلحة، بل إن سر قوة روسيا في هذه الحقبة يكمن في ضعف الآخرين.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس