هناك ما هو ابعد من الهجوم الإرهابي الذي استهدف متحف باردو في العاصمة التونسية وأدّى إلى مقتل عشرين سائحا أوروبيا ومواطنين تونسيين. هناك هجمة على تونس تجعل مستقبل البلد مهدّدا. تقتضي هذه الهجمة التوقّف طويلا عند ما تمرّ به تونس الذي بدت وكأنّها استثناء عربي، خصوصا بعد الذي حلّ بليبيا ومصر واليمن وسوريا نتيجة الثورات الشعبية التي اسقطت الأنظمة في تلك الدول.
قبل كلّ شيء، كشفت الهجمة على المتحف وجود مجموعات ارهابية تتحرّك بحرية. هذا عائد إلى حد كبير إلى تراجع قدرة الأجهزة الأمنية على ملاحقة الإرهابيين وخلاياهم وتحديد الأماكن التي يلجأون اليها ويجدون فيها مأوى آمنا. يضاف إلى ذلك في طبيعة الحال ما يدور في ليبيا حيث لم يعد من مجال في هذا البلد الجار لإيجاد أي ضوابط أمام انتشار السلاح والإرهاب…
يبدو كأن انهيار النظام الذي أقامه زين العابدين بن علي، بحسناته وسيئاته، أدّى إلى انهيار الأجهزة الأمنية أيضا. ففي الدول الحديثة، خصوصا في الدول الديموقراطية، لا بدّ من المحافظة على الأجهزة الأمنية وتحديد دورها بصفة كونها مؤسسات مستقلة في خدمة الدولة والمواطن وليس في خدمة النظام القائم.
في الواقع، ضعفت الأجهزة الأمنية التونسية كثيرا وفقدت فاعليتها بعد انهيار نظام بن علي، في حين كان مفروضا بعد نجاح “ثورة الياسمين” التركيز على استقلالية هذه الأجهزة والتفريق بينها وبين النظام السابق. فالإرهاب يستهدف كلّ عائلة تونسية كما يستهدف كلّ مؤسسة من مؤسسات الدولة، فضلا عن أنّه يستهدف المجتمع التونسي المنفتح الذي قاوم كلّ المحاولات التي بذلها الإخوان المسلمون من أجل القضاء على المنجزات التي تحقّقت منذ الإستقلال، خصوصا في عهد رجل استثنائي إسمه الحبيب بورقيبة.
ليس سرّا أن التونسيين، تتقدّمهم المرأة، يدافعون منذ رحيل بن علي مطلع العام ٢٠١١، عن قيم مجتمعهم المتطور. هذا سمح لهم بانتخاب مجلس للنوّاب لا تسيطر عليه “حركة النهضة” التي تعتبر جزءا لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين. تجرّأ التونسيون على “النهضة” بكلّ ما تمثّله من تخلف من جهة ورغبة في إستباحة مؤسسات الدولة للتحكّم بها من جهة أخرى.
اثبت التونسيون عبر الإنتخابات التشريعية، ثمّ الإنتخابات الرئاسية أنّهم يمتلكون وعيا سياسيا وحسّا وطنيا مرهفا. لذلك صوّتوا إلى جانب “نداء تونس” واتوا بالباجي قائد السبسي، على الرغم من تقدّمه في السنّ، رئيسا للجمهورية.
قبل ذلك، تخلّصوا من الحكومات المتلاحقة لـ”النهضة” التي ارادت تغيير تركيبة مؤسسات الدولة عن طريق حشر أكبر عدد من انصار الحركة فيها. لم تمتلك “النهضة” أي شعور بالمسؤولية الوطنية عندما كانت قادرة على التحكم بمفاصل الدولة والوزارات الأساسية. لم يكن من همّ لدى زعماء الحركة سوى إختراق المؤسسات، خصوصا تلك التي لديها طابع أمني.
كان الهجوم على متحف باردو حدثا مؤلما، بل كارثة. لا شكّ أنّه أعاد الإقتصاد التونسي سنوات إلى خلف، خصوصا بعد الجهود الكبيرة التي بُذلت في الأشهر القليلة الماضية من أجل إعادة الحياة إلى السياحة وتشجيع الإستثمارات الأجنبية.
هذا الحدث المؤلم ليس معزولا عن جرائم حصلت في الماضي، لكنها لم تجد من يحقّق فيها. من بين هذه الجرائم اغتيال شخصيتين وطنيتين هما شكري بلعيد ومحمّد البراهمي على يد متطرّفين ليسوا بعيدين عن الأحزاب التي ترفع شعارات اسلامية.
هناك حال انفلات في تونس أدّت إلى تفادي القيام بحملة منظمة ومستمرّة في الوقت ذاته لمعالجة المشكلة الناجمة عن الوجود الإرهابي في جبل الشعانبين. كلّف هذا الوجود قوات الأمن والجيش الكثير حتّى الآن، وبقيت الدولة التونسية في حال رد الفعل، بدل الإقدام على مبادرة لإجتثاث الإرهاب من جذوره.
في النهاية، مقاومة الإرهاب لا تعني العودة إلى القمع الذي مورس، وإن بطريقة ناعمة، في عهد بن علي الذي استطاع ضبط الأمن إلى حدّ كبير. هذا إذا استثنينا العمل الإرهابي الموصوف الذي استهدف زوار كنيس جربا في السنة ٢٠٠٢ بعد أشهر قليلة من “غزوة نيويورك وواشنطن” التي نفّذتها “القاعدة”.
بعد إعلان “داعش” المسؤولية عن الهجوم علي متحف باردو، يفترض في السلطات التونسية الذهاب بعيدا في التفكير في حماية البلد الذي يعاني أوّل ما يعاني من وجود أطراف ممثلة في مجلس النوّاب والحكومة توفّر حاضنة للإرهاب.
تكفي نظرة إلى الشكل الخارجي لبعض النواب للتأكد من ذلك. ماذا يعلّم هؤلاء أولادهم، على ماذا يربّون هؤلاء الأولاد؟ مثل هؤلاء النواب وبعض الوزراء، الذين بينهم نساء، لا علاقة لهم بتونس الجديدة، تونس ما بعد “ثورة الياسمين”. تكفي نظرة إلى الشكل الخارجي لهؤلاء للتأكّد من أن ليس مستبعدا أنّهم يروجون، رجالا ونساء، لثقافة العنف ورفض الآخر بعيدا كلّ البعد عن الإسلام السمح الذي يعني أوّل ما يعنى الإنفتاح على العالم وكلّ ما هو حضاري فيه.
المؤسف أنّ هناك تقوقعا في اوساط معيّنة في المجتمع التونسي، بما يوفّر حاضنة للإرهاب والإرهابيين. مثل هذا التقوقع يدعو إلى سماع أصوات جريئة تعترف بحصول تغيير في تونس. هذا التغيير لم يكن بالضرورة نحو الأفضل. إنّه تغيير يعكس فشل بن علي في امتلاك جرأة الحبيب بورقيبة في قول ما يجب قوله للتونسيين عن ضرورة إعتماد معايير التقدّم التي في اساسها تطوير النظام التعليمي وتحسين ذوق المواطن بدل اعتماد الاساليب الرخيصة في استرضائه، بما في ذلك الإذاعات الدينية والتظاهر بالتقوى.
يبقى ما هو أهمّ من ذلك كلّه. يبقى أنّ هناك حاجة إلي بناء مؤسسات أمنية شفافة تحمي الدولة والمجتمع المواطن، بدل أن تحمي النظام. لا بدّ من التخلص من عقدة الأجهزة الأمنية في عهد بن علي. كانت لهذا العهد حسنات كثيرة، لا مفرّ من الإعتراف بها. لكنّ المشكلة الدائمة كانت في أن كلّ شيء، في أيام بن علي، كان يدور حول الرجل وزوجته الثانية والعائلة، خصوصا إخوة السيدة الأولى.
تونس الآن، بلد ديموقراطي يمتلك دستورا عصريا. بلد من هذا النوع، قاوم المجتمع فيه التخلف بكلّ انواعه، لا يمكن إلّا أن ينتصر على الإرهاب. وهذا يتطلب قبل كلّ شيء التخلص من سيئات عهد بن علي والإعتراف بأنّ في الإمكان إقامة أجهزة أمنية فعالة، بدل أن تكون أجهزة قمعية. ثمّة فارق بين الأجهزة الفعّالة والأجهزة القمعية. ثمّة فارق بين أجهزة تحمي المواطن والبلد وأجهزة تحمي النظام.
مستقبل تونس يعتمد بكل بساطة على القدرة على القيام بهذه النقلة النوعية التي قد لا تعني الكثير ظاهرا، لكنّها تعني الكثير في العمق. فما على المحكّ مستقبل تونس التي أظهر شعبها، أقلّه إلى الآن، أنّه شعب مقاوم بالفعل لكلّ أنواع التخلّف!