شهدت العلاقات الباكستانية ـ الايرانية فترات من الشد والجذب، خصوصا منذ قيام النظام الايراني الحالي في عام 1979. فقبل ذلك كان البلدان عضوين في حلف بغداد وكانت سياساتهما حيال كل القضايا الاقليمية والدولية متطابقة. وبمعنى آخر كانت علاقات البلدين “سمنا على عسل”. بل أن الشاه محمد رضا بهلوي تدخل أكثر من مرة شخصيا لحماية باكستان من الانهيار عبر تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري واللوجستي لها في الحرب الباكستانية ـ الهندية الثانية عام 1965. وقام الشاهنشاه بتخفيف الاحتقان بينها وبين جارتها الأفغانية زمن النظام الملكي في الأزمة التي عـُرفت بـ”أزمة خيبر”، كما أعلن صراحة عن دعمه لباكستان في الحرب التي انتهت بانفصال الجناح الشرقي للدولة الباكستانية في كيان مستقل (بنغلاديش).
وفي هذا السياق لا بد من الاشارة أيضا إلى ما كتبه الراحل ذو الفقار علي بوتو في مذكراته قبل إعدامه بأن علاقته كزعيم لباكستان مع نظيره الايراني كانت فوق البروتوكلات والرسميات.
غير أن تلك الأمور تبدلت بمجيء نظام الخميني الذي نظر إلى باكستان كقوة سنّية داعمة لدول الخليج ومتحالفة مع “الشيطان الأكبر”، وبالتالي فهي عائق أمام طموحات بلاده في الهيمنة على المنطقة. وعلى الرغم من ذلك ظلت علاقات واتصالات البلدين قائمة تغلفها تصريحات دبلوماسية ناعمة كالقول “بضرورة التفاهم والتعاون كون الدولتين يجمعهما دين واحد ومصير مشترك” أو القول “بوجود مصالح مشتركة كبيرة وكثيرة بين البلدين الجارين” أو القول “بضرورة تعاون البلدين في مناصرة المجاهدين الأفغان ضد قوات الإحتلال السوفيتي الكافرة”. وفي إحدى المراحل انتعشت الآمال بتطوير التعاون بين البلدين عبر مشروع خط أنابيب الغاز وتصدير الطاقة من إيران إلى باكستان والذي لو لم تفسده السياسة لكان منقذا لباكستان من حاجتها الماسة والمتزايدة لإمدادات النفط بأيسر السبل وأقلها تكلفة.
ومن هذا المنظور كثرت زيارات المسئولين الايرانيين لباكستان التي رد عليها الباكستانيون بالمثل آملين أن تكون طهران عونا وظهيرا لهم، بغض النظر عن التباينات المذهبية والعلاقة مع الأطراف الدولية والاقليمية الأخرى. لكن كل هذا لم يشفع لإسلام آباد. فطهران، منذ عهد رئيسها السابق محمود أحمدي نجاد، راحت تصعّد مع الأخيرة على خلفية حوادث القتل والاغتيال والتفجير التي كان مسرحها إقليم سيستان/بلوشستان المجاور للأراضي الباكستانية حيث تحاول مجموعات بلوشية سنية مناهضة للنظام الايراني (تحديدا حركة “جند الله” و”جيش العدل” المؤسس في عام 2012) الانطلاق منه للقيام بعمليات مسلحة ضد قوات الحرس الثوري الايراني والجيش والشرطة. ولعل ما زاد من احتقان العلاقات بين الطرفين تنصيب إيران لنفسها كمدافعة عن الاقلية الشيعية الباكستانية ضد أعمال العنف التي يتعرض لها أبناء هذه الأقلية من قبل الميليشيات الاسلامية السنية في كراتشي وغيرها. وهنا لا بد من التذكير بما كتبه الدبلوماسي الباكستاني “جاويد حفيظ” من أنه حينما فرضت حكومة الرئيس الراحل ضياء الحق تأدية الزكاة على الباكستانيين، رفض الشيعة هذا الأمر، وفوجئت الحكومة الباكستانية بذلك لأن هذا التطور برهن على مدى نفوذ طهران على المواطنين الشيعة في باكستان والذي تجسد في تأسيسهم لمنظمة “تطبيق فقه الجعفرية في باكستان” التي لعبت دورا خطيرا في تأجيج المشاعر الطائفية في باكستان.
ويضيف الدبلوماسي الباكستاني قائلا: “وبعد الانقلاب في إيران، توجه مئات الباكستانيين الشيعة إلى مدينتي مشهد و قمْ للحصول على دراسات دينية. وكرد فعل برزت على الساحة جماعات سنية متشددة مثل “جنود الصحابة” تميل إلى العنف للحد من انتشار النفوذ الشيعي في البلاد. و ظل التهاب المشاعر الطائفية ينعكس سلبا على العلاقات الثنائية لمدة طويلة”.
وقد ساهم في توتير الاوضاع بين الجارتين أمر آخر هو رغبة كل منهما بتعزيز مواقعه في أفغانستان المحاذية لكليهما خصوصا مع قرب رحيل القوات الأجنبية من الأخيرة، وإدعاء كل طرف بوجود مصالح استراتيجية له في هذا البلد، علما بأن أفغانستان طوال سنوات حكم طالبان في التسعينات كانت عامل توتر دائم في علاقات البلدين بسبب معاداة الطالبانيين للشيعة الهزارة والطاجيك الذين يتحدثون الفارسية على خلاف الأغلبية البشتونية، ناهيك عن اتهام طهران لنظام الراحلة بي نظير بوتو بخلق حركة طالبان وتنصيبها في كابول خدمة لمصالحه الاستراتيجية.
الأمر الجديد وغير المسبوق في علاقات البلدين البينية هو قيام طهران مؤخرا بدق طبول الحرب ضد اسلام آباد متهمة الأخيرة بأنها لا تقوم بما يجب عمله للجم القوى المعارضة لها، وبأنها تسمح باستخدام أراضيها لزعزعة الاستقرار في إيران، بل وتسمح لقوى استخباراتية غربية معادية للعمل في بلوشستان الباكستانية على نحو ما صرح به وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف. ويبدو أن الايرانيين المنتشين بما يسمونه انتصارات لهم في العراق واليمن أداروا وجوههم الآن نحو باكستان الضعيفة المترهلة، متناسين أن الحدود الإيرانية ـ الباكستانية متعرجة وصعبة ويصل طولها إلى أكثر من 900 كيلومتر، وبالتالي يصعب السيطرة الكاملة عليها، خصوصا في ظل ما تعانية الحكومة الباكستانية من أزمات داخلية طاحنة وخلافات سياسية وانهيار إقتصادي، ناهيك عن حاجة إسلام آباد إلى تأمين حدودها المتوترة مع الهند في إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه.
على أن طهران لم تكتفِ بدق طبول الحرب وتهديد باكستان بتجاوز الحدود الدولية لملاحقة معارضيها داخل اقليم بلوشستان الباكستاني، بل قامت بالفعل بعمل عسكري هو الأول من نوعه حينما قصف جيشها تلك الحدود بالهاونات، الأمر الذي رد عليه الجيش الباكستاني بالمثل.
وأخيرا فإن ما قرأته ضمن التعليقات على الاوضاع المتوترة بين ايران وباكستان وأضحكني هو إقتراح أحد الزملاء من كتاب الأعمدة والذي دعا إلى ضرورة أن تتدخل دول الخليج لحماية باكستان مما يتهددها. وردي المتواضع هو أن دول الخليج من واجبها أن تحمي نفسها من التغول الايراني أولا قبل أن تساعد غيرها.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh