تعرفت على مصباح الصمد في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن علاقتنا تعززت في النصف الثاني من التسعينيات على خلفية مقاربتنا الأكاديمية المستقلة لقضية الجامعة اللبنانية ودور فروعها الشمالية. ومع أن الثمانينيات شهدت إرهاصات نقابية و أكاديمية وتربوية مهمة، وهو ما تجلى في لجان متابعة وإضراب واسع لأساتذة الجامعة اللبنانية، شارك فيه الأساتذة الشماليون بقوة، إلا أن إعادة تكوين رابطة الأساتذة وابتداع هيئة التنسيق استكملت في التسعينيات من خلال مواجهات نقابية وعمالية مع السلطات في ظل العصا الغليظة للوصاية السورية والتي سرعان ما بدأت بإفراغ وحشو ومن ثم احتواء الإتحاد العمالي واستطرادا هيئة التنسيق النقابية في سياق “التطبيق السوري” للطائف بالتعاون مع فئات سياسية ومذهبية معينة.
وكما أن مركزية الجامعة في بيروت استحوذت على السلطة الأكاديمية والإدارية و”خيراتها” عبر المحاصصة المذهبية والفئوية، تاركة الفتات للأطراف، كذلك فإن القوى السياسية ،المذهبية بمجملها، حاولت الإستحواذ على رابطة الأساتذة واستطراداً هيئة التنسيق ما كاد يجعلها تهتز وتتفتت رغم وفرة المناضلين، ذلك أن الإعتبارات المذهبية والفئوية والمناطقية كانت تظلل تركيبتها رغم نضالية معظم المشتغلين بها . وقد أبدى الأساتذة الشماليون، خصوصاً أصحاب السوابق اليسارية، مقاومة قوية لهذا الجنوح المذهبي.
وفي خضم هذه الصراعات والمخاضات تقدم الأكاديمي الراحل مصباح الصمد صاحب التاريخ النضالي (عبر لجنة الحوار الدائم مع سمير فرنجية وفارس سعيد والراحل هاني فحص وآخرين)، فكان لنا خير زميل وعون وصديق في إدارة الصراع من الضفة الطرابلسية بما يحافظ على الحد الأدنى من المصداقية النقابية والأكاديمية بمواجهة صعود النجوم المذهبية في كل مكان. ومن سخرية القدر أن تمسكنا بتنوعناً وعلمانيتنا، خصوصاً في الفروع الشمالية شكل مدعاة تندر واستغراب في بعض الأوساط الأكاديمية، بما فيها من يفترض بأنهم من أصحاب السوابق العلمانية، علما أننا تواصلنا مع بعض رموز ورومانسيي الجامعة اللبنانية كنزار الزين وصادر يونس وجيلبير عاقل وعصام خليفة ورفاق حسن مشرفية الكثر.
لقد شكل دخول الراحل إلى الحلبة النقابية إضافة نوعية خصوصاً، أنه احتفظ ببنية فكرية حوارية، هادئة ورصينة وبمكانه أكاديمية تجلت في التعليم الراقي وتحقيق المراجع والترجمات والأبحاث فضلاً عن الإشراف على الرسائل الذي لم ينقطع أبدا في الجامعات اللبنانية والعربية. ورغم أن الراحل امتاز بسعة الأفق الثقافي وسكنته هموم الوطن والمنطقة عموماً، إلا أنه آمن بثنائية الموقف والإنماء، لذا كان أحد مطلقي حركة البناء الجامعي في المون ميشال منذ قاربنا(كأعضاء شماليين في قيادة رابطة الأساتذة) الراحل الكبير رفيق الحريري حول هذا الموضوع بموازاة إنجاز المدينة الجامعية في الحدث في النصف الثاني من التسعينيات ثم في إعادة إطلاق هذا المشروع بعد إنتفاضة العلوم التي أثمرت لجنة جديدة للمتابعة تميزت بالمهنية وسعة التمثيل والتي كان الراحل أحد مؤسسيها البارزين وعضوا في مكتبها التنفيذي، فضلاً عن وقوفه سداً منيعاً بوجه من حاول توظيفها واستثمارها في معاركه السياسية، فحافظت اللجنة على استقلالها وشكلت بفضل الراحل ورفاقه قطارا جلس في مقصوراته جميع الفعاليات السياسية والنقابية وهيئات وقوى المجتمع الشمالي وطبعا ممثلوا الكليات، رغم الإنقسامات التي وصلت حدود الإنشطار.
وحين تقدمت قضية البناء عبر نقل الملكية والإستملاكات والدراسات وبعض التلزيمات، كان مصباح من أوائل الداعمين والمؤسسين لحركة بوزار التي هدفت في البداية إلى تعويض أهل منطقة القبة وجوارها
بعضا مما سيخسروه من انتقال الجامعة للمون ميشال. ومن المعلوم أن جدار ونصب بوزار واستطرادا ترميم مباني العلوم والمنطقة المحيطة بها ساهم بالتخفيف من الأثمان المضاعفة التي دفعها الأهالي، علما أن المنطقة حافظت على تنوع نسبي رغم كل الحروب والتوترات وهي ما زالت تشكل بوابة لمعظم الأقضية الشمالية ومنها قضاء الضنية التي أعطاها الراحل جزءا مهما من نشاطه عبر المنتدى الثقافي وغيره فحضنته في الثرى حبيبا دائما.
لقد اطلقت “بوزار” مع الراحل ورفاقه حركة تحديثية في المنطقة والمدينة وكل الشمال قال فيها الشهيد جبران التويني “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” وسرعان ما تصاعدت وتحولت إلى هوس تحديثي بعد زلزال الإغتيال في 14 شباط في محاولة إثبات أن طرابلس مدينة عريقة للمستقبل رغم تفاخرها بأصالتها وتراثها ورغم غضبها من البؤس والتهميش والحرمان.
لم يكن مصباح، رغم استقلاليته المعروفة وهدوئه المميز وعلاقاته المتنوعة وطبيعته الحوارية ،حيادياً حيال الإنقسامات السياسية منذ تشكل النظام الأمني السوري اللبناني. فقد جهر بموقفه ضد تحويل لبنان إلى حديقة سورية ولاحقاً إيرانية، علماً أن صلابته ظهرت في المراحل الأولى من السيطرة السورية خصوصاً في طرابلس، لذا لم يكن صعباً علينا إقناعه بالعدول عن الترشح للنيابه سنة96، ذلك أن ترشح أمثال مصباح كان سيعني إفادة مجانية للنظام المتشكل تحت مجهر المخابرات السورية وملحقاتها في لبنان، وهذا ما كان سيضيف المصباح إلى مجموعة المرشحين الذين شكل الكثير منهم رصيداً موضوعياً لسلطة الوصاية.
ومن الطبيعي اذن أن نرى مصباح الصمد في دائرة المجموعات الناشطة على أكثر من صعيد بمواجهة الهجمة الإيرانية السورية على البلد والتي أدت لاحقا إلى إغتيال رفيق الحريري ورفاقه، فشارك بإنتفاضة 14 آذار والتي ظهر فيها اللبنانيون ولو ليوم واحد، وكأنهم من نسيج واحد وطائفة لبنانية واحدة ما جعلهم قبلة الشعوب العربية من جهة وهدف الأنظمة العربية القلقة من هذه الظاهرة الربيعية من جهة أخرى. ورغم حماس مصباح لهذه الإنتفاضة التي أخرجت القوات السورية من لبنان و أضاءت جزءا من النفق المظلم، إلا أنه حذر مبكرا من من الألغام الطائفية والمذهبية في مكوناتها كما عمل مع أترابه في طرابلس والشمال وكل لبنان من أجل إعادة تكوين القوى الديمقراطية والعلمانية والمتنورة ضمن الحركة السيادية الإجمالية، خصوصاً بعد تصاعد الصراع المذهبي في أعقاب حرب 2006 وصولاً إلى إحتلال بيروت في 7 أيار و تداعيات هذا الإحتلال على المدينة التي شكلت ظهيراً سياسياً لإنتفاضة الأرز ولشعار لبنان أولا.
لقد تألم الراحل من الهجوم على الحركة الإستقلالية ومن الجرح الذي أعيد فتحه في طرابلس وأدى إلى تراجعها الدراماتيكي على كل الصعد وصولاً لملامسة الفشل، خصوصاً بعد تحرك الفوالق السورية وانكشاف حجم وحدة وخطورة المشاكل البنيوية في المنطقة بعد انتفاضات الربيع العربي الذي تحول دامياً ومرعباً في سوريا والعراق ومعظم المنطقة برعاية روسية وإيرانية وبتواطؤ أواستخفاف واستنكاف غربيين وبضعف وتردد وتصارع عربي رسمي وبموقف تركي متربص وملتبس، مربكا قوى التغيير والإعتدال والتعدد ومطلقا قوى التطرف المذهبي والطائفي والإتني من كل الضفاف، خصوصاً من الضفتين السنية والشيعية. ومع ذلك فقد ظل إيمان أستاذ اللغة الفرنسية الراحل بالتغيير قويا، وهو الشغوف بالثورة الفرنسية وأدبائها والعارف بحجم ومندرجات مآسيها وتقلباتها قبل أن تصبح قبلة للثائرين والعاشقين والحالمين. ولطالما رددنا سويا ما قاله أنطونيو غرامشي للمحبطين من صعود الفاشية والنازية وغيرها منذ حوالي القرن بأن “العالم القديم يتغير والعالم الجديد يتأخر في البزوغ وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية”، وما أكثر الوحوش الفالتة في هذه الأيام، فلم يعد الوحش الإسرائيلي وحيدا، إذ حين سئل أحد المسؤولين الإسرائيليين عن حجم القتل والدمار الغير مسبوقين في غزة أجاب “أنظروا ماذا يفعل الأسد”. ومع وانفلات وحش التطرف المنفلت من عقاله ومع سراح الوحوش الكاسرة من داخل وخارج المنطقة، نرانا نترحم على الحبيب مصباح والرفيق أنطونيو في آن.
ورغم الإنكفاء النسبي للراحل الباسم مؤخرا بسبب المرض الذي ألم به، فقد تابع نشاطه الفكري والأكاديمي وحافظ إلى حد كبيرعلى تواصله مع كل المواقع والمحطات التي عمل لها ومن خلالها بما فيها النشاطات السياسية والإنمائية إلى أن غادرنا بهدوء ودون صخب. وكما توقف سيف الدين ضناوي عن ميني منتدى “البان دور” فإن مصباح الصمد لن يلتحق بميني منتدى “كريم باش”.
لقد رحل باسمان بارزان من عالمنا، إلا أننا سنتابع الإبتسام وسنظل نمتهن ثقافة الأمل والفرح والحياة
ونقاوم ثقافة البؤس والإحباط والموت، وربما من أجل ذلك نتألم جميعا للفراق كأهل وأصدقاء ومحبين وطلاب. أسألوا اميلي التي كان الراحل سيرأس لجنة التحكيم على أطروحتها بعد أربعة أيام من رحيله.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان