كتب الزميل جاسر الجاسر مؤخرا في صحيفة الحياة اللندنية عمودا يدعو فيه إلى حظر سفر مواطنيه السعوديين إلى تركيا طالما أن الأخيرة باتت معبرا لأبناء السعودية وبقية الأقطار العربية والخليجية ـ وأيضا الأوروبية ـ ممن يريدون عبور الحدود التركية ـ السورية إلى داخل سوريا للإلتحاق بوحوش القرن الحادي والعشرين من تنظيمي داعش والنصرة، خصوصا وأن تلك الحدود ليست حصينة ويمكن اجتيازها بسهولة عبر دفع بعض الاتاوات والرشا بالدولار الامريكي الأخضر. هذا إذا ما أحسنا الظن وقلنا أن نظام الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان بعيد عن تسهيل مهمة المقاتلين القادمين من مختلف البقاع للإلتحاق بالتنظيمين المتطرفين المذكورين.
إن دعوة الزميل الجاسر فيها الكثير من المنطق والحجة، وبالتالي فمن واجب صناع القرار في الرياض وبقية العواصم الخليجية المكتوية بذهاب مواطنيها إلى مناطق القتال والنزاعات أن يفكروا فيها مليا، لاسيما وأن هناك قرارات رسمية وفتاوى دينية من أعلى المرجعيات تجرم وتحرم هذه الظاهرة المتنامية، ناهيك عن توارد الانباء بشكل يومي تقريبا حول فقدان الامهات الخليجيات لفلذات اكبادهن في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سببه الأول أن السلطات التركية لا تتشدد كثيرا مع من يريد عبور حدودها الى الداخل السوري.
أما القول بأن تركيا دولة اسلامية كبيرة يجب الاحتفاظ بعلاقات ودية معها وعدم استثارتها بمثل هذه الاجراءات، أو القول بأن دول الخليج لا ترسم سياساتها وعلاقاتها الخارجية بطريقة إنفعالية وبالتالي لم تكن يوما ما البادئة بالتصعيد مع الآخر فيجب وضعهما على الرف ــ على الأقل مؤقتا ــ طالما أن الطرف الآخر ممثلا في نظام أردوغان لا يكترث بعلاقاته ومصالحه الكثيرة في منطقة الخليج، بل راح ينتهج نهجا هستيريا من خلال دعمه وتأييده الحازم لجماعة الإخوان المسلمين التي يحاربها معظم دول الخليج. ثم من خلال ازدرائه لكبرى الأقطار العربية وأكثرها ارتباطا بدول الخليج (مصر) ووصف رئيسها المشير عبدالفتاح السيسي بـ”الطاغية” من فوق منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وتحدّيه شرعية النظام المصري الحالي باحتضانه في اسطنبول في الثامن من أغسطس 2014 للإجتماع الذي انبق عنه ما يسمى بـ”المجلس الثوري المصري”. ليس هذا فحسب وإنما أيضا ذهاب أردوغان وحكومته أبعد من ذلك بكثير بقيامهما بالتنسيق والتعاون والتشاور المستمر مع النظام الفقهي الايراني المعروف باستهدافه لأمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي وذلك بهدف استغلال ما تمر به المنطقة العربية من ضعف واختلال وفوضى في فرض هيمنة تركية/فارسية عليها على المدى البعيد. ويخطئ من يعتقد أن التناقضات المذهبية بين الطرفين، اوتباين سياساتهما حيال الغرب واسرائيل، أو تنافسهما على منطقة القوقاز وآسيا الوسطى يحول دون تحالفهما. ودليلنا هو الزيارات المتبادلة على اعلى المستويات بين القادة الاتراك والفرس وإبرام الجانبين اتفاقيات امنية لمطاردة المعارضين لهما في اراضي البلدين، وإتفاقيات اقتصادية وتجارية وصناعية ونفطية الغرض منها تسهيل هروب ايران من الحصار الدولي الخانق المفروض عليها من المجتمع الدولي (تشير مراكز اقتصادية مختصة إلى أن تركيا تطمح إلى رفع مستوى تعاونها على الأصعدة التجارية والاقتصادية والصناعية مع جارتها الفارسية ليشمل مجالات النفط والغاز والتجارة كي يرتفع حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين من 6.5 مليار دولار حاليا إلى 20 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة). لذا صدق من كتب قائلا “إن التشابهات والتقاربات بين تركيا وإيران، رغم كل مراحل الشد والجذب في علاقاتهما خلال السنوات الغابرة، أكثر من التناقضات سواء في العمق الخطابي أو الموقف في الداخل أو الموقف من الخارج، ولكن الأخطر أن هدفها الأول على ما يبدو هو إعادة ترتيب البيت الاقليمي”.
وبطبيعة الحال سيخرج علينا من يحتج بأن دعوة حظر السفر إلى تركيا ستحرم الكثيرين من السياحة في تركيا والتمتع بمناظرها الخلابة ومطبخها الشرقي العامر ومشاهدة آثارها الاسلامية، فنكون كمن يعاقب الكل بجريرة البعض. وردّنا هو: فليكن الأمر كذلك طالما أن فيه حفظ لأرواح أبنائنا وصيانة لأمن أوطاننا.
وجملة القول أن الكرة الآن في ملعب أنقرة لتعيد الحرارة والثقة إلى علاقاتها مع دول الخليج العربية، أو تفعّل رؤية رئيس حكومتها أحمد داوود أوغلو القائلة بضرورة “تصفير المشاكل” مع العالم العربي ــ مقابل رؤية ملالي طهران القائلة بضرورة تأزيم العلاقات مع العرب ــ تلك العلاقات التي كانت قبل سنوات قليلة واعدة ومبشرة بالخير العميم في مجالات التنسيق السياسي والشراكة الاستراتيجية والتبادل التجاري والاستثماري والتعاون الصناعي، قبل أن يحرق اردوغان جماهيريته وشعبيته في الخليج والعالم العربي المنبثقة عن مواقفه الخطابية المساندة للحق الفلسطيني عبر اللجؤ الى الخطاب الانفعالي ومن ثم التلكؤ في مساندة الثورة السورية وأخيرا موقفه اللاانساني لجهة حماية الأكراد الفارين من “عين العرب/كوباني”.
والمعروف أن العلاقات بين دول مجلس التعاون وتركيا شهدت تطوراً ملحوظاً في السنوات القليلة الماضية وصولا إلى إعلان “حوار استراتيجي” بينهما في إطار شراكة إقليمية في سبتمبر 2008 بمبادرة بحرينية – تركية. كما وأن الأعوام القليلة الماضية شهدت حالة من الانتعاش الاقتصادي بين دول الخليج بشكل عام وتركيا، أدت إلى إبرام صفقات تجارية ضخمة، وتعاون في عدة مجالات تجارية وعقارية وانتعاش الموسم السياحي كذلك في تركيا، وتسيير عشرات الرحلات الجوية أسبوعياً من الخليج نحو تركيا.
وأخيرا لا مناص من العودة الى الوراء والتذكير بأن اي قرار لحظر السفر الى تركيا للاسباب التي اشرنا اليها لن يكون بالامر الغريب او المستحدث. فكلنا يعرف ان بعض الأقطار الخليجية حينما تأثرت أمنيا بعودة مواطنيها المجاهدين في افغانستان وباكستان قامت بحظر السفر إلى الأولى باعتبارها منطقة صراعات وتطرّف، وحظر السفر إلى الثانية باعتبارها معبرا إلى الأولى. وتكرّر الأمر ذاته في التسعينات حينما تشددت بعض الدول الخليجية مع سفر رعاياها إلى البوسنة والهرسك للجهاد ضد الصرب والكروات.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh