إلى أين سيتّجه الحوثيون، أي “انصار الله”، من صنعاء التي اكتسبوا من خلال سيطرتهم عليها الشرعية التي كانوا في بحث دائم عنها؟ بدأوا في صعدة ومنها إلى عمران ذات الأهمّية الإسترتيجية. بعدما كرسوا الآن وجودهم السياسي في العاصمة صنعاء، المرجّح أنّهم سينتقلون منها إلى حجّة وذلك لأسباب عدة ليس بينها الميناء البحري وحده.
لعلّ أهمّ ما في الإتفاق الذي وقّعه الحوثيون، أي “انصار الله” مع الرئيس الإنتقالي عبدربهّ منصور هادي اعتراف الأمم المتحدة بهم، بصفة كونهم ندّا للدولة اليمنية. هناك الدولة اليمنية ممثلة بمؤسساتها، أو ما بقي منها، وهناك “انصار الله” يفاوضون الدولة من موقع قوّة وليس من الندّ للند فقط.
صحيح أن معظم الأحزاب اليمنية وقّعت الإتفاق عبر ممثلين لها، في حضور الرئيس الإنتقالي وممثل الأمين العام للأمم المتحدة جمال بنعمر، لكنّ الصحيح أيضا أن الإتفاق هو نتيجة مباشرة لإجتياح الحوثيين لصنعاء، على غرار غزوة ميليشيا “حزب الله” لبيروت والجبل الدرزي في السابع والثامن والتاسع والعاشر من ايار ـ مايو ٢٠٠٨.
لم تجد تلك الغزوة أيّ مقاومة من مؤسسات الدولة اللبنانية، لا من قوى الأمن ولا من الجيش. ما حصل في بيروت، حصل في صنعاء أيضا، بفارق ست سنوات واربعة اشهر. في العاصمة اليمنية أيضا لم يوجد من يقاوم الحوثيين عندما سيطروا على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومقر رئاسة الوزراء ومجلس النوّاب ووزارة الدفاع والبنك المركزي، كما طوّقوا وزارة الداخلية…
أوجد “انصار الله” توازنا جديدا على الأرض. بات على الذين لم يفهموا في البداية معنى سيطرتهم على مدينة عمران وقبلها على معاقل آل الأحمر في المحافظة، في تموز ـ يوليو الماضي، أن يفهموا الآن أنّ الحوثيين صاروا شركاء في القرار اليمني على كلّ المستويات، خصوصا في مجال تشكيل الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ما فعلوه في مدينة عمران ومحيطها حيث قضوا على زعامة آل الأحمر لحاشد وهزموا الإخوان المسلمين وشتتوا اللواء ٣١٠ التابع للواء على محسن صالح الأحمر وقتلوا قائده العميد حميد القشيبي يعطي فكرة عما يريده الحوثيون. أحلّوا مكان اللواء ٣١٠ قوات موالية لهم، وخلافا لما وعدوا به ولم ينسحبوا من المدينة ذات الأهمّية الإستراتيجية. على العكس من ذلك عزّزوا وجودهم فيها وفي المناطق المحيطة بها.
هل في استطاعة الحوثيين في المدى الطويل ابتلاع لقمة اسمها صنعاء التي لم يواجهوا فيها مقاومة تذكر؟
قد لا يكون هذا السؤال في محلّه لسبب في غاية البساطة يعود إلى أنّهم حققوا سياسيا ما يريدونه. استقالت، أخيرا، حكومة محمّد سالم باسندوة التي كانت حكومة “وفاق وطني” تضمّ موالين للرئيس السابق علي عبدالله صالح من حزب المؤتمر الشعبي العام، ومعارضين له من الذين ثاروا عليه بقيادة الإخوان المسلمين ورموزهم مثل الشيخ حميد عبدالله الأحمر واللواء علي محسن الذي كان حتى السنة ٢٠١٠ من اعمدة النظام القائم على معادلة “الشيخ والرئيس”. كان في اساس المعادلة تلك، التفاهم بين مشائخ حاشد (آل الأحمر) من جهة والرئيس اليمني وشبكة العلاقات الواسعة التي أقامها من جهة أخرى.
لم يكن باسندوة موفقا لا في توقيت استقالته ولا في البيان الذي اصدره والذي وجّه فيه اللوم الى الرئيس الإنتقالي وممارساته. فباسندوة المرتبط بالشيخ حميد الأحمر والإخوان المسلمين كان عليه الإستقالة باكرا بعدما فقدت حكومته علّة وجودها قبل أشهر عدّة. فضلا عن ذلك، كان عليه انتقاد عبد ربّه منصور عندما كان لا يزال الإنتقاد يجدي، أي قبل أن يضطرّ الرئيس الإنتقالي إلى الرضوخ للحوثيين الذين اقتربوا من مقرّ اقامته وصاروا على مرمى حجر منها.
في كلّ الإحوال، دخل اليمن مرحلة جديدة لا علاقة لها بالماضي. وقع “انصار الله”، وهم مرتبطون عضويا بالمشروع الإيراني في المنطقة، الجانب الذي يعجبهم من الإتفاق ورفضوا توقيع الجانب العسكري والأمني. لم يعد في الإمكان تشكيل حكومة يمنية من دون رضاهم. لم يعد في الإمكان اجراء تشكيلات عسكرية من دون موافقتهم. أكثر من ذلك، صار “الحراك الجنوبي” الذي يدعو الى الإنفصال والذي لديه ارتباط بهم من بين الذين يمتلكون كلمة في تسمية الوزراء.
أمّن “انصار الله” وجودا سياسيا وعسكريا ثابتا في صنعاء، التي بات مطارها والقاعدة الجويّة الملاصقة له تحت سيطرتهم، وذلك كي ينصرفوا إلى الأهمّ. والأهمّ لا يقتصر على الإعتراف الدولي، عبر ممثل الأمين العام للإمم المتحدة بوجودهم، بمقدار ما يعني قيام كيان خاص بهم لديه منفذ بحري هو ميناء ميدي المطلّ على البحر الأحمر والواقع في محافظة حجّة.
تبدو حجّة الوجهة المقبلة لـ”انصار الله” وذلك من باب “تطبيق مخرجات الحوار الوطني”.
بالمفهوم الحوثي، يقتضي ذلك اعادة النظر في خريطة الأقاليم الستّة القائمة في اطار “الدولة الإتحادية”. يريدون بكلّ صراحة وببساطة، ليس بعدها بساطة، أن يضمّ اقليمهم المحافظات اليمنية التي فيها الزيود.
تكمن أهمّية حجّة في أنها ترمز إلى الوجود الزيدي، إذ منها آل حميد الدين والمتوكّل وكلّ الأسر الهاشمية الكبيرة الأخرى مثل المداني وشرف الدّين والكحلاني، على سبيل المثال وليس الحصر. يسعى الحوثيون إلى استغلال الرابطة القائمة بين العائلات الهاشمية، التي لا يمكن الإستخفاف بأهمّيتها في اليمن، إلى ابعد حدود. بكلام أوضح، يسعى “انصار الله” إلى اخراج الإخوان المسلمين نهائيا من المناطق الزيدية بعدما سعى الإخوان والسلفيون في الماضي إلى اختراقها. يفعلون ذلك خدمة لأغراض سياسية تصبّ في اقامة كيان خاص بهم قابل للحياة ولديه حدود طويلة مع المملكة العربية السعودية. يندرج ذلك في ما يمكن اعتباره اختراقا ايرانيا كبيرا لليمن على غرار الإختراق الذي حصل في لبنان والذي عملت عليه طهران وما زالت تعمل منذ ما يزيد على ثلاثة عقود.
في لبنان خطف “حزب الله” الطائفة الشيعية وغيّر طبيعة المجتمع الشيعي، باكثريته طبعا. وحاول بعد ذلك، من دون تحقيق نجاح يذكر، تغيير طبيعة المجتمع اللبناني المتمسّك بثقافة الحياة والإنتماء العربي للبلد.
في اليمن، يعمل “انصار الله” على وضع الزيود تحت جناحهم تمهيدا لخطفهم وتغيير طبيعة الطائفة في كل مناطق وجودها في اتجاه جعلها اثني عشرية.
لا بدّ من الإعتراف بأن المناطق التي ينطلق منها الحوثيون، في مقدّمها محافظة صعدة، عانت تاريخيا من ظلم كبير ومن كلّ انواع الحرمان…
ولكنّ، هل يبرّر ذلك الدخول في مشروع مرتبط مباشرة بايران في منطقة حسّاسة على غير صعيد؟
لا تعود أهمّية اليمن إلى وضع معرقلي التسوية السياسية فيه تحت البند السابع لأحد قرارات مجلس الأمن فحسب، بل هناك أيضا سببان يجعلان من البلد، ذي التركيبة القبلية المعقّدة، محطّ انظار العالم المنشغل في ايّامنا هذه بــ”داعش” وتمدّدها في سوريا والعراق وتهديدها لبنان والأردن.
يعود السبب الأوّل إلى الأهمية الإستراتيجية لليمن الذي لديه شاطىء طويل يمتد من بحر العرب إلى البحر الأحمر ويتحكّم بباب المندب. أما السبب الآخر فهو وجود “القاعدة” في مناطق عدّة من اليمن ذي الأكثرية الشافعية. ماذا اذا حصل صدام بين ارهابيي “القاعدة” و”انصار الله”؟ هل يكفي أن تكون لدى الحوثيين اختراقات وارتباطات في الجنوب والوسط كي يتفادوا مواجهة مباشرة مع عناصر “القاعدة”؟
قد لا يستسلم اليمن لـ”انصار الله” وايران بالسهولة التي يظنّها هذان الطرفان.