هي أحبت جارها اليهودي وتزوّجته. لا بأس. فهذا شأنها. وقد أخرجت فيلماً وثائقياً عن الموضوع. طيّب. وعندما جوبه الفيلم، بانتقادات فلسطينية، قررت أن تعمل فيلماً وثائقياً عن محمود درويش. لا بأس. محمود درويش شخصية عامة، لا يملكه أحد ولا يحق لأحد ادعاء ملكيته، ولكن استباحة سيرته ليست بالحق المكفول.
ومن سوء الحظ أن هذه الحقائق لا تُحترم كما ينبغي. فقبل سنوات قام ممثل عديم الموهبة، يعرف القيمة التسويقية للاسم وتاريخه، بتمويل وتمثيل مسلسل عن محمود درويش. واليوم، تُستباح سيرته في فيلم (تخيّلوا) بعنوان “سجِّل أنا عربي”. وكما نعلم، وتعلم المُخرجة، فإن للعنوان، كما للسيرة وصاحبها، قيمة تسويقية عالية.
وهي القيمة نفسها التي تتناوب لعبة التجلي والخفاء في ثلاث لغات هي العربية، والعبرية، والإنكليزية، يُراد لها التعريف بالفيلم وترويجه على الإنترنت، وفي مقابلات صحافية. وكلها تتراوح ما بين حب الشاعر القومي ليهودية إسرائيلية، و”نبش” تاريخه العاطفي السري، والعثور أخيراً على “ريتا” بشحمها ولحمها ورسائلها.
لم يكن دافع الفيلم إعجاب المخرجة بشعر محمود درويش، كما تقول صحيفة هآرتس، بل “لأنه أحب يهودية”. وهذا ما يتجلى، أيضاً، في كلامها عن تجربة نجمت عن عرض فيلم أخرجته عن علاقتها بجارها اليهودي في قرية عرعرة، حين طالب الجمهور الغاضب بوقف الفيلم بعد ربع ساعة. “لم أعرف كيف خرجتُ حيّة من هناك”، تقول لهآرتس، ولكنني: “وقفت وقلت لهم محمود درويش أحب يهودية، وكتب لها قصيدة ريتا والبندقية”. ولسان حالها في النص الغائب: إذا كان الشاعر القومي قد فعلها فلماذا لا أفعلها.
وهنا بيت القصيد، وغاية المُراد من رب العباد، إذ ينبغي لمحمود درويش أن يقوم بدور المُحلِل في علاقة عاطفية خاصة. ولم يكن لدور كهذا أن ينجح في خدمة الفيلم وصاحبته دون استباحة محمود درويش نفسه، وسيرته العاطفية والشعرية.
وهذا ما يتجلى في ثلاثة أمور:
أولاً، لا أسرار خاصة في حياة محمود درويش، وقد سأله كثيرون: لماذا لا تكتب سيرة شخصية، وكان رده الدائم: سيرتي في نصوصي الشعرية والنثرية. وهذا صحيح، ويمكن التدليل عليه بأدوات ومفاهيم النقد الأدبي، ناهيك عمّا ينجم عن معايشة تكاد تكون يومية على مدار سنوات طويلة من إطلالة على الشخصي والحميم.
ثانياً، لا وجود لريتا، في الواقع، فقد كانت نسيجاً شعرياً من وجوه كثيرة. وأزعمُ بأنني أعرف، شخصياً، أكثر من امرأة يمكن أن تدعي بأنها المعنية بالأمر. والأهم: لم يعِش محمود درويش، أبداً، قصة حب على طريقة روميو وجولييت.
ثالثاً، لا معنى لريتا الواقعية، أو المتوهّمة، خارج حضورها المجازي باعتبارها علاقة مستحيلة، على أنقاض بيت العائلة، بين ابن الضحية وابنة الجلاّد.
وهل يعني هذا أن الحد الفاصل بين الكولونيالية وضحاياها غير قابل لعبور الاستيهامات الإيروسية من الجانبين؟
الجواب: لا. فهذا الحد يشهد في بلادنا عبوراً، يومياً، من الجانبين، على مدار عقود. وهذا ما لا يمكن اختزاله في المعطيات الإحصائية لدى الباحثين في علوم الاجتماع، ولا يمكن توثيقه طالما أن أغلب العلاقات تبقى طي الكتمان. ومع ذلك، يمثل الأدب والفن الذي ينتجه الفلسطينيون والإسرائيليون ما يشبه الصندوق الأسود، ومن خلاله يمكن النظر إلى خصوصيات العبور من الجانبين.
صناديق الأدب والفن لا تشتغل على طريقة الصناديق السوداء في الطائرات. ففي الأدب والفن لا تقل طريقة التشفير نفسها أهمية عن الواقعة المعنية. فلا قيمة للقاء رجل بامرأة (والعكس صحيح) يعبران الحد دون طريقة التشفير، وهذا ما يمنح الواقعة دور المادة الخام، فيما يمكّن ما سينتح عنها لاحقاً من الانتماء إلى الأدب والفن.
وبها المعنى، لا قيمة لريتا خارج صورتها المجازية، طالما أن في الصورة المجازية ما يمكنها من عبور الفردي الخاص (الذي لا يعني أحداً) إلى الأدبي والفني العام الذي يحقق “الإمتاع والمؤانسة”، على طريقة شيخنا التوحيدي.
وهذا، إذا حضر، لا يمكن أحداً من استباحة محمود درويش شخصاً ونصاً، وينبغي له أن يغيب ليصبح فعل الاستباحة ممكناً. لذا، كان ينبغي لريتا أن تكون سراً ينتظر الاكتشاف باعتبارها كينونة واقعية، وفيزيائية، تماماً، طالما أن في حضورها المجازي ما لا يمكن المُخرجة من تحويل محمود درويش إلى مُحلِل في حكايتها العاطفية الخاصة. ينبغي أن تكون ريتا واقعية ليصبح مجازها الدرويشي باطلاً. تقول لهآرتس: “هذه أوّل مرّة يعرف العديد الناس هوية ريتا الحقيقية”.
تُستمد ضرورة إبطال المجاز الدرويشي من حقيقة أنه لا يستقيم مع الحكاية العاطفية للمخرجة نفسها، بل فيه كل ما يميط اللثام عن حكايتها باعتبارها مجازاً مضاداً. في الواقعة الدرويشية تقف البندقية عائقاً بين عيني الفتى وابنة الجلاّد، أما في الحكاية العاطفية الخاصة فيتوّج عبور المُخرجة للحد بعقد الزواج، وبما هو أهم: في الفيلم الذي يوثق علاقتها العاطفية بحبيبها اليهودي الإسرائيلي، يحضر الحبيب في طريقه للاحتفال بعيد الاستقلال، بينما تذهب المُخرجة الفلسطينية لإحياء ذكرى النكبة.
لا بأس. كان يمكن للمُخرجة أن تتوّج عبورها للحد بالزواج، وأن تدافع عن حقها في الحب، بصرف النظر عن الهويات القومية والدينية، والصراعات السياسية، ولكن ما علاقة محمود درويش بهذا كله؟ ولماذا ينبغي لحمولته الرمزية والقومية والثقافية في المخيال الثقافي الفلسطيني والعربي والعالمي أن تُوظّف في خدمة حكاية لا تستقيم واقعة، ومجازاً، وحقيقة، مع حكايته وسيرته؟ استباحة، لا أكثر.
هي أحبتْ يهودياً وتزوجته، وما علاقة محمود درويش بالأمر؟
khaderhas1@hotmail.com