مثلما توقعنا في مقالات سابقة بأن الجيش سيضطر في نهاية المطاف إلى أخذ زمام المبادرة والتدخل لاعادة الامور الى نصابها في تايلاند، فقد كرر قائد المؤسسة العسكرية المنيعة الجنرال “برايوت تشان أوتشا” (60 عاما) في الثاني والعشرين من مايو ما فعله العديد من أسلافه في ظروف مشابهة، وإن كانت تلك الظروف لم تبلغ مستوى الانقسام الذي يعيشه المجتمع التايلاندي اليوم ما بين معسكرين وتوجهين متناقضين، أحدهما يمثل أبناء المناطق الشمالية الريفية الملتفة حول أسرة “آل شيناواترا”، والآخر يمثل النخب المدينية المؤيدة بقوة للملكية.
حيث أحكم الجنرال قبضته على البلاد من خلال فرض الاحكام العرفية على مختلف المقاطعات والمدن ، وذلك في خطوة استباقية لمنع حدوث مصادمات في الشارع.
لقد خــُيل للكثيرين قبل سنوات قليلة أن عصرا جديدا قد بدأ لا مكان ولا دور فيه لذوي البزات الكاكية والرتب النحاسية. وبعبارة أخرى كان المأمول أن يتوارى العسكر إلى الخلف لصالح النخب الديمقراطية المدنية. غير أن ما حدث في مصر في يوليو الماضي، وماحدث في تايلاند مؤخرا، وما يجري حاليا في ليبيا، وما قد يحدث في تركيا مستقبلا يؤكد أنه لا غنى عن المؤسسة العسكرية كجهة تحسم الأمور وتعيد الأمن والاستقرار وتحمي الممتلكات والأرواح وتصون مقدرات البلاد في حالات إنقسام المجتمع ما بين تيارين وفشل قياداتهما المدنية في الاتفاق على التعاون وحل الخلافات.
وفيما يتعلق بتايلاند تحديدا، كانت كافة المؤشرات تجمع على أن البلاد ذاهبة نحو الهاوية في ظل الاحتجاجات اليومية الصاخبة لجماهير المعسكرين المتخاصمين الممثلين في ذوي القمصان الحمراء وذوي القمصان الصفراء، وقيام هؤلاء بشل عمل مؤسسات الدولة عبر إحتلال مبانيها، وعدم قدرة الزعماء السياسيين للمعسكرين على إيجاد مخرج للأزمة السياسية، وتدهور قطاع السياحة الذي يمثل عصب الإقتصاد التايلاندي، وتردد المستثمرين اليابانيين والصينيين في ضخ إستثمارات جديدة. وهكذا لم يجد الجيش بدا من القيام بدور المنقذ، خصوصا بعدما فشل الساسة المدنيون في إستغلال آخر فرصة منحها العسكر لهم للتصالح والخروج بحل مقنع يوقف النزيف المستمر منذ سبعة أشهر. وهذا تحديدا ما شدد عليه الجنرال برايوت في خطابه الأول للشعب حينما قال أن ما قامت به مؤسسته ليس إنقلابا وإنما اجراءات اضطر لاتخاذها حفاظا على استقرار البلاد وامن المواطنين وصيانة مصالحهم، بعدما إنتهت المهلة التي منحها للأطراف السياسية لإيجاد مخرج للإزمة.
وبطبيعة الحال راحت الولايات المتحدة ــ ومعها شريكاتها الاوروبيات ومنظماتها الحقوقية المسعورة ــ فور سماعها بنبأ هذا الانقلاب الأبيض تتباكى كعادتها على الديمقراطية ومباديء حقوق الإنسان التي “إنتهكها العسكر”، دون أدنى إكتراث بما كان سيحل بتايلاند وشعبها واقتصادها من مآس لو ترك الحبل على الغارب للجماعات الفوضوية والرعاع والساسة الفاسدين كي يفعلوا ما يحلو لهم. ومثلما فعلتْ في الحالة المصرية قامت واشنطون على الفور بتجميد 3.5 مليون دولار من مساعداتها العسكرية للجيش التايلاندي كعقاب للأخير على قيامه بواجبه الاخلاقي في حماية وطنه، مع تهديد بفرض المزيد من العقوبات على هذا البلد الحليف للأمريكان منذ الحرب العالمية الثانية.
لقد شهدت تايلاند منذ تأسيس نظامها الملكي الدستوري في عام 1932 إثنا عشر إنقلابا عسكريا ناجحا، كان آخره ذلك الذي تزعمه قائد الجيش الجنرال المسلم عبدالله أو “سونتي بونياراتغلين” في عام 2006 من أجل الإطاحة برئيس الوزراء المنتخب “تاكسين شيناواترا” على خلفية فساده واستغلاله للسلطة وعدم احترامه للنظام الملكي وشخص الملك “بهوميبون ادونياديت”. والجدير بالذكر أن معظم تلك الانقلابات حدث من دون إراقة دماء، وكذا الحال بالنسبة إلى سبع محاولات انقلابية لم يكتب لها النجاح لأنها لم تحظ بتأييد الملك. ذلك أن تأييد الملك العلني أو المبطن لأي قائد إنقلاب يعتبر أمرا ضروريا لبقائه في السلطة وتنفيذ الأجندات التي جاء من أجلها.
ومن هذا المنطلق، ومن بعد إعلانه للأحكام العرفية وإيقاف العمل بالدستور، وحل مجلس الشيوخ، واعتقال اكثر من 155 سياسيا مدنيا، ومن ضمنهم رئيسة الوزراء المعزولة بأمر قضائي السيدة يينغلوك شيناواترا، حرص قائد الانقلاب الجديد على نيل إعتراف عاهل البلاد العليل بالنظام الجديد. فكان له ما أراد.
ومما لا شك فيه ان هذا الاعتراف الملكي سوف يسهل مهمة الجنرال برايوت في إيجاد تسوية سياسية لأزمة البلاد بعيدا عن إستخدام أطراف الصراع للجماهير وأدوات الاعلام في الضغط من أجل حل تستفيد منه جماعة دون الاخرى.
ومن يقرأ تاريخ الحركات الانقلابية في هذا البلد الآسيوي الناهض ومآلاتها سيكتشف أن بقاء الجيش في السلطة لم يدم طويلا إلا في حالة أو حالتين. أما في بقية الحالات فكان يتسلم السلطة لبعض الوقت من اجل إحداث اصلاحات سياسية وتهيئة المناخ لاجراء انتخابات تشريعية جديدة تتمخض عنها حكومة مدنية، ثم يعود طواعية إلى ثكناته أو بأمر مبطن من الملك أو تحت ضغط الشارع.
وطالما أتينا على ذكر الملك، الذي يملك ولا يحكم كما هو الحال في الملكيات الدستورية، فإن الدستور أقر له بثلاثة حقوق أساسية لتمكينه من إضفاء مرئياته على الشأن العام. وهذه الحقوق هي الحق في إسداء المشورة إلى رئيس الوزراء، والحق في تحذيره، والحق في تشجيعه. وقد استخدم العاهل التايلاندي الحالي هذه الحقوق بمهارة فائقة اثناء المنعطفات والمآزق الصعبة التي واجهت بلاده خلال العقود التي تولى فيها العرش. فمثلا في الخمسينات انتصر للجنرال “ساريت داناراجاتا” الذي هدد بإنقلاب ضد حكومة الجنرال “بيبولسونغرام”، وذلك باعلان الاحكام العرفية وتعيين ساريت حاكما عسكريا.
وفي عام 1973 الذي شهد ثورة طلابية دموية ضد حكومة “تانون كيتيكا تشورن” العسكرية لم يستطع الملك السكوت على إراقة الدماء فتدخل لصالح نشطاء الديمقراطية وأمر قادة الحكم العسكري بمغادرة البلاد إلى الولايات المتحدة وتسليم السلطة إلى الأكاديمي “سايتا دارماساكي”.
وما بين عامي 2005 و2006 حينما راجت المخاوف من قدوم “تاكسين شيناواترا إلى السلطة بتفويض جماهيري كبير، وقام معارضو الأخير باللجؤ إلى الملك للتدخل وتعيين مجلس للوزراء بأمر ملكي كان رد الملك بالرفض. وفي عام 2006 حينما قام الجنرال عبدالله بانقلابه ضد شيناواترا وفرض الأحكام العرفية تحت شعار حماية الملكية وضرب المفسدين، مع وعد باجراء انتخابات جديدة خلال عام واحد، قام الملك بعد يوم واحد من هذه التطورات بإعلان دعمه لحركة الجيش.
تنويه: حررت هذه المقالة قبل إعلان قائد الجيش التايلاندي لخارطة طريق سينفذها خلال عام
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh