لم تعد الثورة السورية مع نهاية عامها الثالث كما في بداياتها. فطريق الثورات عادة ليس خطا مستقيما، إذ تمر بمراحل مختلفة لدرجة ان بعض الثوار يكف عن الاعتقاد باستمرارها، فيتنكر لها: “سرقت ثورتنا!”.
ما يجعلنا نعتبر ان الثورة مستمرة ان قواها الشعبية التي بدأتها سلمياً، رغم أنها همشت، لم تتخل عن حراكها المستمر فما تزال تقاوم تصفيتها من قبل القوى المسلحة الصاعدة التي اعطت البندقية الدور الأول على حساب السياسة، التي عاد الشعب لممارستها بعد حرمانه لخمس عقود في ظل الحكم الاستبدادي البعثي ثم الاسدي. ورغم أن التسلح لم يكن اختياراً طوعيا بل امراً لا مفر منه كنتيجة لوحشية النظام في مواجهة الحراك السلمي، إلا انه غيّر وجه الثورة ودفع للمقدمة امراء حرب لا علاقة لعدد منهم بأهداف الثورة فيما عدا “اسقاط النظام” الذي يرفعه الجميع ثم يختلفون حول كيفية الاسقاط وشكل سوريا المستقبل.
هناك على الأقل أربعة أطراف تتصارع في الحرب الدائرة.
أولها النظام وقواه العسكرية والميلشيات التي استقدمها من الخارج، والثاني القوى السياسية والمسلحة الأقرب لأهداف الثورة في الحرية والديمقراطية، الائتلاف الوطني والجيش الحر المرتبط بالمجلس العسكري. فالائتلاف الوعاء الأكبر والأكثر تمثيلا بين المعارضات المتواجدة، رغم تهميشها وتراجعها امام القوى الأخرى. والثالث، القوى المسلحة الإسلامية التي تفضل خوض حرب طائفية بين السنة والنصيرية كما تسميها، وليس بين الشعب السوري والحكم الاستبدادي، هدفها إقامة حكم يطبق الشريعة حيث السيادة لله وليس للشعب كما في النظام الديمقراطي المدني. وذلك تراجع عما بات يمثله الإخوان المسلمين المشاركون في الائتلاف من تبني برنامج إقامة دولة مدنية والاحتكام لصناديق الاقتراع في دولة المستقبل، فيما السلفية الجهادية تكفر “الحرية” و”الديمقراطية”!
الإسلاميون المسلحون، القوة الأهم، يتفاوتون في توجهات كتائبهم إلا ان السلفية هي الأكثر انتشارا. أخرجوا من صفوفهم السلفية التكفيرية، تنظيم الدولة داعش، بعد افتضاح توجهه لمقاتلة الثوار وليس النظام. وهم ينسقون مع الجيش الحر، ويتحالفون معه في مواجهة النظام وداعش، وهي الحرب الرئيسية التي تدور حاليا إلى جانب حرب أخرى أقل أهمية تدور بين الجيش الحر والقوى المسلحة الإسلامية من جهة والقوات المسلحة للأمر الواقع الكردية، “الطرف الرابع” الذي ان لم يكن مرتبطا مع النظام فلهما مصالح مشتركة، فالنظام أودع حزب ال “ب.ي.د” مناطق كردية لإدارتها فيما تتفرغ قواه للمواجهة الرئيسية، كما اعطى الحزب نفسه مهمة التصدي للحراك الكردي ضد النظام وإركاع الأحزاب الكردية.
تعقدت مسارات الثورة ولكنها مستمرة ضمن ظروف افتقاد تدخل عسكري خارجي ضد النظام، ولكن بتدخلات عسكرية مع النظام من لبنان وإيران والعراق لعبت دورا في منع انهياره. السمة الأساسية التي تميز الصراع أن أيا من الطرفين غير قادر على الحسم لصالحه، ولا يتوقع أحد ان يخرق توازن القوى لصالح النظام أو لصالح تحالف الجيش الحر مع القوى الإسلامية المسلحة في فترة قريبة. الشعب السوري الخاسر الأكبر في مثل هذا الوضع، يقدم الضحايا بأعداد كبيرة نتيجة وحشية النظام في قتل وتجويع شعبه وتدمير بلداته وبناه التحتية وتهجير واعتقال مئات الألوف، في تطور كارثي جعل وجود الشعب السوري وسوريا كدولة مهددا بالزوال مع استمرار الصراع دون حسم. لذلك فإن وقف الاقتتال هو الحل العقلاني لصراع مدمر. وذلك لن يتحقق إلا بحل سياسي جاء مؤتمر جنيف 2 ليوفر فرصة له، لا يجب تفويتها مهما كانت احتمالات نجاحها محدودة.
ما يهمنا هنا ان نرصد مواقف القوى السياسية للثورة السورية من مثل هذا الحل، وهي المعنية بمتابعته حتى النهاية. فقد كانت المشاركة في المؤتمر القرار الأهم الذي اتخذه الائتلاف الوطني منذ تشكيله ليمثل القيادة السياسية الرئيسية للثورة المعترف بها دولياً، رغم ضعف سيطرته على القوى المسلحة وفشله في توفير قيادة سياسية للبندقية المنفلتة. وقف الكارثة ومحاولة ضمان الحد الأدنى من المطالب التي ثار الشعب من أجلها اهداف مهمة للمشاركة في المؤتمر، فماذا كان موقف قوى معارضة أخرى داخل وخارج الائتلاف؟ عملياً التلهي بالصراعات البينية الشخصية والحزبية والتكتلية الثانوية على حساب التناقض الرئيسي مع النظام وعلى حساب الكارثة السورية، والسعي للهيمنة على القيادة السياسية للثورة.
أولهم كتلة المنسحبين الـ 44 من الائتلاف الذين اعتبروا في بيان انسحابهم أن مؤتمر جنيف مؤتمر إذعان واستسلام!، وربطوا انسحابهم برفض المشاركة، علما ان انسحابهم لم يتم بعد اتخاذ الائتلاف قراره بالمشاركة ولكن بعد فشل التكتل الذي يديره رجل الاعمال الصباغ في نيل الأكثرية في انتخابات الائتلاف. فلو نجحوا في الانتخابات سيشاركون، ولكن فشلهم جعلهم يتحججون برفض المشاركة وان توسعة الائتلاف عند إدخال الكتلة الديمقراطية أتت بمن يحبذ التفاوض مع النظام! وهو موقف يدل على ان مصلحة الشعب السوري هي في الاهتمام الأخير للكتلة فيما مصالحهم الشخصية لها الاعتبار الأول.
المجلس الوطني الذي عمل محتكروه لمنع دخول اية أطراف أخرى لمجلسهم، والذي عاد للقبول بالاندماج في ائتلاف جديد أوسع، انسحب أيضا من الائتلاف ببيان جورج صبرا وعلق انسحابه على مشجب رفض المشاركة في مؤتمر جنيف رغم ان “المجلس” لم يبق منه سوى لافتة اضافها البعض لرصيدهم الشخصي. فالإخوان الذين قيل انهم كانوا مسيطرين على المجلس صوّت قسم منهم للمشاركة والقسم الآخر لرفضها، لكن الرافضين أعلنوا على لسان رياض الشقفة أنهم لن ينسحبوا من الائتلاف ويتمسكون به كالإطار الاهم للمعارضة السياسية، ويحترمون قرار الأكثرية بالمشاركة ويدعمون وفد الائتلاف للمؤتمر ويتشاورون معه. وهو موقف نادر في أوساط المعارضة، حيث العمل للهيمنة وإقصاء الآخر يطبع معظم تكتلاتها. بعد موقفهم هذا، من يمثل بيان صبرا؟ علما أن المجلس ذاب ضمن الائتلاف ولم يبق منه سوى أفراد يحملون اللافتة!
يبقى معارضة أخرى موجودة داخل وخارج الائتلاف! كيف حدث هذا؟ النموذج الاوضح اعلان دمشق الذي ذاب أيضا داخل الائتلاف، بعض المحسوبين عليه صوت للمشاركة وآخرين لعدمها، بعضهم صوت لرئاسة الجربا والبعض الآخر لحجاب والصباغ، لذلك وجد من فكر بإحياء الإعلان! فتشكل الإعلان “في المهجر” من جديد ودعا لمؤتمر في أيار يعقد في إسطنبول، شكل له لجنة تحضيرية من منسحبين وحردانين ومبعدين ومعادين للائتلاف، مثل الحكم بابا ومأمون الحمصي وعمار قربي وعبد الرزاق عيد، وغيرهم .. مع نسيان كمال اللبواني، ربما لأنه قال: “لن نستسلم ولو تحولنا جميعا لداعش” وكأن داعش تقاتل النظام السوري وليست ثورة مضادة! ويبدو مؤتمر أيار مقدمة لتشكيل كتلة جديدة تفرض نفسها على الائتلاف الوطني لتوسيعه من صفوفها، على طريقة “الكتلة الديمقراطية” التي جمعها ميشيل كيلو وفرض على الائتلاف تمثيلها، والتي ذابت فيما بعد داخله. وإذا لم ينجح ذلك يمكن التهديد بتكوين ائتلاف جديد. ولا يهم بعد ذلك الكارثة التي يعيشها السوريون والتي تفترض وحدة المعارضة السياسية.
هيئة التنسيق طرف آخر محسوب على المعارضة، أصدرت قرارا برفض المشاركة في مؤتمر جنيف رغم انها تدعو لرفض العنف والتسلح وتحبذ الحل السياسي للصراع. المؤتمر أقرب لتوجهاتها فلماذا رفضت إذن؟ السبب الحقيقي انها مدعوة من قبل الائتلاف وليس مباشرة من الأطراف الدولية المشرفة وذلك رأته انتقاصا من “هيبتها”! لن تقبل بان تكون أقل من الائتلاف ان لم يكن اهم منه، بريستيج الهيئة اهم من مصلحة الشعب السوري في وقف الكارثة! قال رئيسها ان الهيئة “لم تقاطع” المؤتمر بل هي “غابت!” عنه لأنها لم تتلق دعوة من الابراهيمي، فهي تمثل 11 حزبا! بالطبع معروف انها أحزاب لا يتعدى كل منها رئيس الحزب وكمشة من الأعضاء، فيما عدا حزب صالح مسلم الذي يعد مسلحيه بالآلاف، العضو بهيئة “ترفض التسلح والعنف”، ويقال ان عبد العظيم ومنجونة أقرب للمشاركة في وفد الائتلاف فيما مناع قد ينشق عن الهيئة إن لم يكن اسمه ضمن وفدها! أين مصلحة الشعب السوري في كل ذلك؟
وتضم هيئة التنسيق فيما تضم تيارا موجودا داخلها وخارجها، يمكن تسميته “المعارضة الكيدية” للمعارضة الرئيسية، وهي “تعارض” المعارضة ان شاركت في جنيف، وتعارضها إن لم تشارك! ونموذجه الأوضح هيثم مناع الذي من شدة عدائه للمعارضة التي يمثلها الائتلاف سبق أن اتهم مسلحي الجيش الحر بأنهم من استخدم الكيماوي في الغوطة الشرقية! ونائبه ماجد حبو الذي اتهم الائتلاف بانه “امعة لأميركا” اوكل شؤون سوريا “للمندوب السامي فورد”. فتوصيف المعارضة بالعمالة أحد أوجه تشارك “المعارضة الكيدية” مع النظام.
الحالة المأساوية للمعارضة السياسية السورية التي يتجاهل معظم أطرافها المأساة السورية في حمأة اندفاعهم للهيمنة على مفاصل القيادة السياسية للثورة، تدعو للأسى، نقدنا لها ليس للتجريح الشخصي ولكن ربما لحثها على تناسي خلافاتها وتوحيد جهودها في الزمن الصعب لإخراج سوريا من الوضع الكارثي الذي تمر به، وبعدها ليتصارعوا كما يشاؤون من خلال صناديق الاقتراع.
وحدة المعارضة السياسية تشكل خشبة انقاذ للثورة ونجاحها في اخراج سوريا من أزمتها ومنع وقوعها في يد التكفيريين وما سيؤدي اليه من مآس لا تنتهي، فالمعارضة السياسية هي الأكثر قرباً من أهداف الحراك الشعبي السلمي الأول المطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، والذي يكاد العمل العسكري المتجه للسلفية يسحقه بعد ان فشل النظام في ذلك.
فهل من مجيب؟
ahmarw6@gmail.com
تشتت المعارضة السورية يغذي الكارثة
ﺷﻜﺮﺍ ﻻﻫﺘﻤﺎﻣﻚ ﺍﻻﺥ ﻏﺴﺎﻥ …
تشتت المعارضة السورية يغذي الكارثة
ما يعجبني في كتابات الاستاذ جورج موضوعيته وتجرده في تحليلاته.