لستُ مقتنعاً بنظرية المؤامرة، وأعتقد أن ما أصاب، ويصيب، العالم العربي من كوارث مرده اختلالات بنيوية عميقة: اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية. ومع ذلك، ليس صحيحاً أن كل الطامحين في تحقيق مصلحة ما لم يحاولوا استغلال ما نصفه بالاختلالات البنيوية العميقة، سواء تعلّق الأمر بالمشاعر الدينية، أو البنية الاجتماعية، أو الحساسيات القومية، أو حتى بمستوى التعليم، والنخب السياسية والاقتصادية السائدة والمهيمنة.
وبهذا المعنى يستحيل فصل التجليات السياسية للاختلالات البنيوية العميقة عن الصراعات بين دول في الإقليم، وعن الصراع بين قوى كبرى في العالم، ومرد هذه وتلك المصالح، وطريقة تعريفها، وسبل تحقيقها. لذلك، نخطئ كثيراً إذا تصوّرنا أن اللاعبين المحليين يمارسون أدوارهم بمعزل عن صراع المصالح في الإقليم والعالم.
ومبرر كل هذا الكلام ما نراه، ونسمعه، عن داعش، والنصرة، والقاعدة، والسلفيات الجهادية. مَنْ هؤلاء، ومِن أين جاءوا، ومن يدربهم، ويموّلهم، ويسلحهم، ويُخرجهم إلى العلن في سورية، والعراق، ومصر، وليبيا، ولبنان، وتونس، واليمن، والسعودية.
أهبل من يعتقد أن أحداً يستطيع أن يشكّل جماعة مسلحة، ويحصل على بندقية، ويتمكن من استعمالها (بصرف النظر عن الدوافع والشعارات)، ضد دولة قائمة، بجهود ذاتية، دون مساندة من دول في الإقليم والعالم.
عندما انطلقت الحركة الفدائية الفلسطينية في أواخر الستينيات، لم يكن في وسعها أن تصبح ظاهرة عامة، دون معسكرات التدريب المصرية، والمال السعودي والخليجي، والدعم اللوجستي السوري والعراقي، والغطاء السياسي العربي، والسوفياتي، في وقت لاحق.
ولم يكن التدريب، والمال، والدعم، والغطاء، سراً من أسرار الدول، بحكم مكانة القضية الفلسطينية، وقيمتها الرمزية في الخطاب العام، والضمير الشعبي، وفي لعبة المصالح والتوازنات.
ولكن، فلنتأمل كيف كان الحال، عندما انخرطت دول في الإقليم، والعالم، في إنشاء ودعم وتمويل الأفغان بعد الاجتياح السوفياتي. كان في الأمر ما يشبه الفضيحة، التي يحاول الجميع التنصل منها، وكان الدعم جزءاً من عمل المخابرات، وبعيداً عن أعين الناس، وأجهزة الإعلام. لماذا؟
لأن في دعم الأفغان ما يمثل تحدياً للاتحاد السوفياتي (حتى الولايات المتحدة لم تجرؤ على كشف كل أوراقها في اللعبة الأفغانية)، ولأن المسألة الأفغانية لم تكن جزءاً من هموم المواطن العربي، ولا المصلحة الاستراتيجية للدول العربية المشاركة، التي كانت تؤدي، في الواقع، خدمة للأميركيين.
وهذا الكلام يوصلنا إلى القاعدة، والنصرة، وداعش، وأنصار بيت المقدس، وأنصار الشريعة، وبقية السلفيات الجهادية، المنخرطة في عمليات إرهابية ضد دول قائمة. أهبل من يعتقد أن هذا كله يحدث دون دعم من جانب دول، أو أن الدعم وقع في فترات سابقة، لكن تلك الجماعات شبّت عن الطوق، وأصبحت قادرة على التوّسع، والانتشار، وتدبير أمورها، وسلاحها، ومالها، وتدريبها، بجهودها الذاتية، فأصبحت ظاهرة عامة ذاتية الحركة.
لا يغامر، أو يُقامر أحد من الرسميين في العالم، بالإعلان عن دعم مكشوف لتلك الجماعات، بل لا يتردد أحد في إدانتها، ما عدا قناة الجزيرة، المفتونة بالرأي والرأي الآخر، التي تصفها بالجماعات “الموصوفة” بالإرهابية. والسؤال الذي يرد إلى ذهن القارئ، على الفور: ومَنْ هي تلك الدول، إذاً؟
ولن أُقدّم جواباً بسيطاً بل سأشارك القارئ في أمر كشفه الأميركي ستيفين كينزر، في كتاب صدر مؤخراً عن الحروب السرية للأخوين جون فوستر دالاس (وزير خارجية الولايات المتحدة في الخمسينيات) وألان دالاس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية في الفترة نفسها.
الكتاب عن الحروب السرية للأخوين دالاس، وكيف يحصد الأميركيون، والعالم، الثمار المرّة لمؤامرات الأخوين، خلال الفترة المذكورة، في مناطق مختلفة من العالم. ومن بينها يقول كينزر: إنشاء جيوش وشبكات سرية مسلحة في أوروبا الغربية لبث الإرهاب، والفوضى، في حال وقع اجتياح سوفياتي، أو انتُخبت حكومات يسارية.
في الكتاب تفاصيل عن عمليات للإطاحة بحكومات في العالم والشرق الأوسط، أيضاً. وهذا ليس موضوعنا الآن. المهم أن إنشاء جيوش، وشبكات، سرية مسلحة في العالم العربي، بالتوازي مع المشروع في أوروبا، لا يبدو أمراً بعيد الاحتمال، بالتعاون مع دول، وجماعات، محافظة معادية لأفكار الحياد، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.
والمهم، أيضاً، أن دولاً في الإقليم منفردة، أو بالتعاون مع الأميركيين، سعت إلى إنشاء جيوشها، وشبكاتها السرية، للاستعانة بها في القضاء على محاولات داخلية لتغيير نظام الحكم، أو ضد دولة، أو دول، في الإقليم، تنتهج سياسية تهدد ما ترى فيه أمنها. ويبدو أن فترة الطفرة النفطية، منذ مطلع السبعينيات جددت الاهتمام، ووفرت المال الكافي، بقدر ما وفرت “الصحوة” الجنود المحتملين.
وربما في هذا ما يفسر، جزئياً، في السنوات الأخيرة: كيف ولماذا ظهرت جماعات من البلطجية، وأثارت الذعر والفوضى، عشية سقوط بن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وكيف ولماذا فشل العراقيون في القضاء على الإرهاب، وكيف ولماذا وقعت الثورة السورية رهينة في يد القاعدة وأخواتها. وكيف ولماذا تصاعدت العمليات الإرهابية في مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان، الذين صرح ناطق باسمهم بأن أعمال العنف في سيناء ستتوقف بعد عودة مرسي إلى الحكم بدقيقة واحدة.
هذا يفسر، جزئياً، كما قلنا. وما لا ينبغي ألا يسقط من الحسبان أن الجيوش السرية، والشبكات، بنادق للإيجار، إذا انتهت خدمتها لدى مُشغّل بعينه، انتقلت إلى مشغّل آخر، وبحثت عن فرص أخرى للشغل. المهم، فكرة المؤامرة سخيفة، ولكن الأهبل من يعتقد أن القاعدة وأخواتها في العالم العربي تشتغل بجهودها الذاتية، إلا إذا صدقنا القرضاوي، و”الجزيرة”، وكل الكلام الفارغ عن الرأي والرأي الآخر.
khaderhas1@hotmail.com
الكلام الفارغ عن الرأي والرأي الآخر..!!
“أهبل من يعتقد” الأهبل هو من يقارن حركه التحرير لفلسطين بالحركات الاسلامية المتطرفة. للأسف هكذا أسلوب الكثير من العرب، التجريح لكل من يخالفنا الرأي…….