بعد نحو ست سنوات من إغتيال رئيسة الحكومة الباكستانية الأسبق “بي نظير بوتو” في عملية إنتحارية وقعت في 27 ديسمبر 2007، من بعد إنتهائها من خطاب إنتخابي وجهت محكمة مكافحة الارهاب في راوالبندي إلى زعيم البلاد الأسبق الجنرال “برويز مشرف” ثلاث تهم تضمنت التآمر ضد بوتو، وتسهيل وتنفيذ عملية قتلها، وهي تهم عقوبتها الإعدام شنقا أو السجن مدى الحياة طبقا للقانون الجنائي الباكستاني.
وهكذا بات السؤال الأكثر طرحا في باكستان اليوم هو عما إذا كان مشرف سيلقى مصير والد من يتهمونه بالضلوع في قتلها ألا وهو “ذوالفقار علي بوتو” رئيس البلاد الأسبق وأكثر ساستها دهاء وثقافة وكاريزما، والذي تم إعدامه في عام 1979 في ظل ظروف غامضة ومحاكمة إعتباطية سريعة، دون أن يشفع له تاريخه السياسي كمنقذ لما تبقى من باكستان بعد إنسلاخ جناحها الشرقي عنها في عام 1971.
وتعتبر هذه الواقعة سابقة في تاريخ باكستان. إذ لم يسبق أن شهدت هذه البلاد توجيه مثل هذه التهم إلى ضابط كبير من قادة مؤسستها العسكرية المنيعة التي لعبت في مختلف الحقب والظروف، ولا زالت، أدوارا سياسية مهمة، مباشرة أو من خلف الكواليس، وإنْ كانت باكستان قد شهدت توجيه مثل هذه التهم إلى رؤساء مدنيين، ومحاكمتهم على نحو ما أسلفنا بخصوص “ذوالفقار علي بوتو”.
والمعروف أن مشرف عاد إلى بلاده في مارس 2013 من بعد أن عاش منذ أواخر عام 2008 في منفاه الإختياري ما بين دبي ولندن، وذلك بهدف المشاركة في الانتخابات على رأس حزبه السياسي الخاص، ضاربا بعرض الحائط بالنصائح التي وجهت له بعدم العودة إلى باكستان خوفا من إعتقاله ومحاكمته، خصوصا مع وجود زوج السيدة بوتو “أصف علي زرداري” في السلطة، ناهيك عن وجود مؤشرات قوية وقتذاك حول فوز خصمه اللدود “نواز شريف” في الانتخابات وبالتالي صعوده الى السلطة، وإحتمال أن يستخدم الأخير نفوذه وسلطته للإنتقام منه ردا على الإنقلاب الأبيض الذي نفذه ضده في عام 1999 حينما كان شريف رئيسا للحكومة ومشرف قائدا للجيش. وقد صدقت التحذيرات التي وجهت لمشرف. إذ بمجرد أن وطأت قدماه الأراضي الباكستانية تم إعتقاله ووضعه في الإقامة الإجبارية، ثم سيق إلى المحاكمة بجملة من التهم والمخالفات التي قيل أنه إرتكبها أثناء قيادته للبلاد ما بين عامي 1999 و 2008 ، الأمر الذي حرمه من المشاركة في الانتخابات العامة والحصول على مقعد برلماني عن الأقاليم الشمالية كما كان يأمل.
والمفارقة هنا أن مشرف فعل تماما ما فعلته السيدة بوتو لجهة التصرف مع النصائح التي وجهت إليهما بعدم العودة إلى باكستان، ريثما تنجلي بعض الأمور، وذلك من باب الخوف على حياتهما ومستقبلهما السياسي في بلد بابه مفتوح على كل الاحتمالات والمصائب العنيفة. فمشرف عاودته أحلام السلطة معولا على مكانته في المؤسسة العسكرية النافذة، وما حققه للبلاد من نمو إقتصادي نسبي، وجماهيريته في أوساط الباكستانيين المتنورين ورجال الاعمال والمستثمرين الذين أحبوه لسياساته المتشددة ضد الاسلاميين المتطرفين على نحو ما تجسد في حادثة “المسجد الأحمر” في عام 2007 ، وما بعد حينما لوحظ تراجع نفوذ المتطرفين من بعد عقدين من سطوتهم. بينما عوّلت السيدة بوتو في إحلامها السلطوية على إرثها وإرث عائلتها السياسي وجماهيرية ظنت أن الأيام لم تبهتها. وفي كلتا الحالتين كان الرهان خاطئا، حيث قــُتلت الأولى غدرا وسط أنصارها وفي وضح النهارعلى يد إنتحاري، بل أغتيلت في “لياقت باغ” بمدينة راوالبندي وهو نفس المكان الذي شهد إغتيال ثاني رؤساء حكومات باكستان “لياقت علي خان” في عام 1951 . فيما كان حظ الثاني أفضل لأنه حكم عليه بالقتل، الذي قد ينفذ كما نفذ في بوتو الأب، او يــُخفف إلى السجن المؤبد إكراما للمؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها.
والحقيقة أن هناك إجماعا على أن محاكمة مشرف شابتها أخطاء كثيرة، وإختلطت فيها الاتهامات الموجهة له بحالات التشفي والاصرار على الانتقام منه وإذلاله وتحطيمه. وطبقا لمحاميه “أفشان عديل”، فإن كل التهم مفبركة، والهدف منها إشغال الجمهور وصرف أنظاره عما تعانيه البلاد من أزمات مثل نقصان الطاقة، وزيادة معدلات البطالة، وتفشي العمليات الارهابية، وتباطوء النمو الاقتصادي، وإنتشار الفساد، وتدهور قيمة العملة الوطنية.
وفي هذا السياق ايضا، هناك من يتحجج بأن المحكمة التي حاكمت مشرف لم تقدم أي دليل ملموس يكشف عن وجود إرتباط بين الأخير ووواقعة إغتيال السيدة بوتو. وهذا في الواقع هو نفس ما أورده مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” في باكستان الذي قال ان القليل جدا تم الكشف عنه في محاكمة مشرف عن علاقته بمقتل بوتو، وأن كل الأدلة التي قدمت لم تتجاوز تصريحات قالها الأمريكي “مارك سيغيل” الذي يدير لوبي مناصر لآل بوتو من واشنطون من أن السيدة بوتو تلقت تهديدا هاتفيا من مشرف بعدم العودة إلى باكستان، وأنها ردت عليه برسالة الكترونية حملته فيه، هو وقائد الجيش وقائد الاستخبارات العسكرية، مسئولية أي ضرر قد تتعرض له حياتها. ومن ناحية أخرى سخر رموز “حزب الرابطة الاسلامية لعموم باكستان” الذي أسسه مشرف في عام 2010، والمقيمون في دبي من المحاكمة التي جرت لزعيمهم قائلين: “أن رموز حركة طالبان التي نفذت إغتيال بوتو لا بد أنهم أكثر من يضحك اليوم من الطريقة الغبية التي تصرف وفقها القضاء الباكستاني”.
ويقدم بعض المراقبين حادثة التخلص قتلا من “ذوالفقار علي” المحقق الفيدرالي الخاص المعني بقضية مقتل السيدة بوتو في الثالث من مايو المنصرم، اي بعد أن كان على وشك تقديم تقريره السابع حول القضية منذ تعيينه في منصبه في عام 2009 ، كدليل على نية بعض الجهات إخفاء الحقائق وتحويل مجرى العدالة بطريقة تجرم مشرف تحديدا وتبرىء غيره كزعيم حركة طالبان/باكستان “بيت الله مسعود” الذي إتهمته إسلام آباد وواشنطون بالوقوف وراء إغتيال بوتو.
وأخيرا فإنه حتى لو افترضنا تبرئة ساحة مشرف من تهمة قتل السيدة بوتو، بإستخدام دليل هو ما صرح به الناطق الرسمي بإسم تنظيم القاعدة “مصطفى أبو اليزيد” من أن تنظيمه هو المسئول عن قتل “بي نظير بوتو” عقابا لها على تعاونها مع الكفار، فإن في انتظار الرجل تهم أخرى قد لا يفلت منها إلا بضغط من المؤسسة العسكرية التي على الحكومة والقضاء. ومن بين هذه التهمة توجيه الأمر بالتخلص من الزعيم البلوشي “نواب أكبر بوغتي” في عام 2006 قتلا، واقتحام المسجد الأحمر الذي أفضى إلى مقتل المئات من المدنيين، وعزل عدد من قضاة المحاكم العليا حينما فرض حالة الطواريء في عام 2007 .
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh