المعروف عن القوى والتنظيمات السياسية الشيوعية منها واليسارية والتقدمية أينما وجدت أنها تضع مصالح وحقوق العمال والفلاحين والطلبة في أعلى سلم أولوياتها، بل وتعطيها الأهمية القصوى في برامجها الإنتخابية. كيف لا وهي التي تعتمد في جماهيريتها على هذه الشرائح المجتمعية الثلاث تحديدا. ويأتي التعليم والتدريب والتأهيل المهني في مقدمة ما تحرص عليه هذه القوى السياسية، وذلك من منطلق أنه كلما صلحت أحوال هؤلاء وإزاد وعيهم ودُربت سواعدهم على العمل المفيد كلما كان ذلك أكثر فائدة وألقا للتيار اليساري والتقدمي في سعيه للمشاركة في السلطة.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى النجاحات التي حققها الحزب الشيوعي في الولايات الهندية التي حكمها لسنوات طويلة مثل ولايتي البنغال الغربية وكيريلا. فمثلا لولا النجاحات التي حققه في قطاعات التعليم والتدريب والتأهيل الفني والمهني في ولاية “كيريلا”، لما توفر للأخيرة، التي لا تزيد مساحتها إلا قليلا عن 1 بالمئة من إجمالي مساحة الهند البالغة 3.3 مليون كيلومتر مربع، ولا يزيد سكانها عن 4 بالمئة من إجمالي عدد سكان الهند البالغ نحو 1.25 بليون نسمة، جيش من العمال المدربين التي غزت بها أسواق العمل الخليجية.
لكن يبدو أن للقوى اليسارية والتقدمية “المعارضة” في البحرين رأي مختلف. فهي، على خلاف نظيراتها في كل مكان، لم تعد تكترث لا بتعليم الناشئة ولا بتدريبهم على مهارات تعينهم على صنع مستقبل زاهر لأنفسهم. وهذا، بطبيعة الحال، ليس بغريب عليها من بعد أن صارت تابعا ذليلا للقوى الدينية الطائفية، تأتمر بأمرها، ولاتخرج عن طوعها، بل لا تقوى على قول كلمة مخالفة لأجندة القوى الأخيرة لجهة ما جرى ويجري في بلادها منذ يناير 2011.
ودليلنا نستقيه من حقيقة بقائها صامتة صمت القبور منذ ذلك التاريخ المشؤوم، وهي ترى وتسمع ما يقوم بها
حلفاؤها الجدد (خصومها الألداء في الماضي) من إرسال الصبية والمراهقين إلى الشوارع من أجل التخريب والتدمير والإعتداء. ولو أن الأمر توقف عند ذاك الحد لما كان لهذا المقال ضرورة. غير أن صمتها طال وتجاوز كل الحدود إزاء إقدام هؤلاء الصبية الطائشين، بتحريض من قادتهم الدينيين، على حرق دور العلم والتأهيل المقدسة في كل الشرائع بصفة يومية، ومنع الطلبة من الوصول إليها بغلق ابوابها بالأقفال والسلاسل الحديدية. حيث لم نسمع بيان إستنكار يتيم يندد بتلك الجرائم وتداعياتها الخطيرة على مستقبل الناشئة. وهذا لعمرى ظاهرة خطيرة وغير مسبوقة في تاريخ القوى اليسارية والتقدمية في البحرين التي عــُرف عنها في سالف الأزمان حرصها الشديد على التعليم وضرورة توفيره كحق من الحقوق الأساسية للمواطن كبيره وصغيره. فما الذي تغير ياترى كي تغيــّر هذه القوى لباسها ونهجها ومبادئها، وتصبح خرساء إزاء ما تتعرض له دور العلم، التي أستــُثمرت فيها طاقات وأموال طائلة من ثروة الوطن؟ وهل أصبح الطلبة خارج إطار الشرائح الجماهيرية التي يــُفترض أن تحرص قوى اليسار والتقدمية على مصالحها ومستقبلها؟
إنه والله لزمن أغبر، ذلك الزمن الذي تتقاعس فيه القوى اليسارية والتقدمية عن تحمل أحد أهم مسئولياتها في الدفاع عن ركيزة من أهم ركائزها، ونعني بها طلبة العلم ومدارسهم ومعاهدهم، مكتفية بترديد ما تقوله المعارضة الدينية الطائفية التي لم يـُعرف لها تاريخ مجيد او نضال مشهود في حقل إشاعة العلم الحديث النافع، وبناء الأجيال المدربة المجبولة على حب العمل وعشقه. والغريب ان اليساريين والتقدميين في البحرين، على الرغم من تاريخهم الطويل في المعارضة، إرتضوا أن يلتحقوا كتابع بمعارضة أقل ما يقال فيها أنها بائسة وغير رشيدة ومستعدة لحرق الوطن والتضحية بكل ما أنجزه من أجل أحلام طوباوية. وفي هذا السياق نعود مرة أخرى للحديث عن الهند والتذكير بأن حزبها الشيوعي الرائد، على الرغم من معارضته الشرسة لحزب المؤتمر الذي قاد الهند منذ إستقلالها في عام 1947 (بإستثناء فترة قصيرة)، لم يتجرأ يوما على دفع أنصاره للتخريب وإشعال الحرائق وضرب بنى الدولة التحتية، وذلك من وحي رؤية صائبة وعقلانية مفادها أن تلك البنى ملك للجماهير وليست ملكا للحزب الحاكم. بل أنه حينما دانت السلطة له في عهد زعيمها الراحل جوتي باسو (تقاعد بمحض إختياره في عام 2000 وتوفي في عام 2008) زهد الأخير فيها. وقتها قال باسو ما معناه “أن الخصومة مع حزب المؤتمر لا تعني التطاول عليه وتشويه إنجازاته”! وهكذا فإن المعارضة نوعان من وجهة نظري. نوع فج أحمق لا ينفع مع سوى الإزدراء والعصا الطويلة، ونوع محترم ورشيد يقدم مصلحة الوطن على مصالحه الخاصة. ففي أي خانة يمكن وضع معارضتنا التقدمية اليسارية التي باعت نفسها للشيطان الطائفي؟
ونختتم بالقول أنه إذا كانت القوى اليسارية والتقدمية في البحرين مـُلامة على صمتها إزاء ما يرتكبه حلفاؤها من تخريب وحرق يومي لمدارس البنين والبنات، فإن وزارة التربية والتعليم ملامة هي الأخرى لأنها لم تتحرك بعد تجاه المنظمات الدولية والإقليمية المعنية بشئون التعليم والمعرفة والثقافة مثل اليونيسكو والأليسكو لتضعها في صورة ما يجري، فضحا لمرتكبيه، وتحشيدا لقوى الخير والتنوير في العالم ضد جرائمهم بحق ناشئة البحرين في تلقي العلم في أمن وطمأنينة وسلام، بل حقهم في طفولة هانئة غير مشبعة بالكراهية والتطييف والعنف.
*باحث ومحاضر أكاديمي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh