لا نبالغ لو قلنا ان النقلة التي نعيشها اليوم بظهور الكمبيوتر والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والهواتف النقالة مشابهة تماما للنقلة التي عاشها جيلنا في الخمسينات بظهور الراديو الترانزستور كبديل لأجهزة المذياع التقليدية الضخمة التي لم تكن تختلف في حجمها ووزنها عن قطع الأثاث، بل كانت لا تعمل إلا بأسلاك كهربائية أو بطاريات جافة في حجم الطابوقة، وأريلات مثبتة في أسطح المنزل أو خارجها. وقتها كان أقصي أماني الشباب أن يمتلكوا جهاز ترانزستور صغير يحملونه معهم أينما شاؤوا، وخصوصا حين صعودهم إلى سطح المنزل للنوم فوق “دواشق” مشبعة برطوبة الصيف الخانقة. وكان من يحصل على مثل هذا الترف مصدر حسد من زملائه، لا لشيء سوى أن بإمكانه الإستماع إلى أغانيه العاطفية المفضلة، بل وإسماعها أيضا لبنات الجيران ممن كن يفترشن سطوح منازلهن التي لم يكن يفصلها عن بقية السطوح سوى جدار إسمنتي أو طيني قصير.
بدأ أول بث إذاعي في العالم في عشرينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، وتحديدا في عام 1916 من خلال بث تجريبي في مدينة بتسبيرغ. وكان ذلك ثمرة محاولات وتجارب دؤوبة وافكار كثيرة وقفت خلفها أسماء عديدة كان أبرزها الإيطالي “جوليلمو ماركوني” الذي نجح في إرسال أول إشارة إتصال بموجات الراديو عبر الهواء في عام 1895، وقد عــُدّ ذلك في حينه بمثابة ثورة في وسائل الإتصالات. غير أن العصر الذهبي للراديو كان قبل وبعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا ما بين عامي 1936 و 1945 حيث حظي بشعبية كبيرة إستمرت حتى ظهور التلفزيون في الخمسينات.
أما تعرف البحرينيين إلى الجهاز فقد كان في الثلاثينات عن طريق راديو فيلبس هولندي الصنع من الشكل القديم (أبو أربع قطع + أريل كبير) ، ولم يسبقهم في ذلك أي من شعوب الخليج الأخرى. وقتها لم يصدق أحد في البحرين ، بطبيعة الحال، أن قطعا من الحديد يمكنها أن تصدر أنغاما وأحاديث، إلى الحد الذي أخفى معه الموسرون خبر إمتلاكهم للجهاز خوفا من إتهامهم بالسحر والشعوذة. لكن نظرة البحرينيين إلى الراديو تبدلت تدريجيا، من شيء مستنكر إلى مستحب ومرغوب، خصوصا مع حاجة الناس إلى معرفة آخر تطورات الحرب العالمية الثانية والتي تبارت فيها هيئة الإذاعة البريطانية مع إذاعة ألمانيا النازية المعروفة بـ “هنا برلين، حي العرب” والتي كان يديرها ويشرف عليها المذيع العراقي ذو المواهب المتعددة “يونس بحري”. كما زاد إقبالهم على الراديو بعدما تأسست إذاعة البحرين في عام 1940 في عهد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة لتكون البحرين بذلك أول دولة خليجية ينشأ فيها دار للبث الإذاعي. لكن رغم ذلك فإن بعض المصادر (مثل كتاب مسيرة وطن للباحث عبدالعزيز يوسف السيد) يخبرنا بأن عدد من كان يمتلك أجهزة الراديو في فترة الحرب لم يتعد 68 شخصا، ومصادر أخرى تؤكد أن معظم تلك الأجهزة كانت صناعة أوروبية من ماركات فليبس، وباي، وسيرا، وآر سي إيه، وغريتس. وغيرها من تلك التي صار لها لاحقا وكلاء تجاريون معتمدون في البحرين من أمثال يوسف بن يوسف فخرو، ومحمد فخرو، ويوسف خليل المؤيد، وعبدالله غلوم، وأحمد الجامع. ويمكن تفسير قلة أعداد مالكي الراديو بضعف الأحوال المعيشية للسواد الأعظم من الناس من جهة، وإرتفاع ثمن الجهاز من جهة أخرى، ناهيك عن أن الكثيرين من عشاق الراديو كانوا يلجأون إلى المقاهي الشعبية ليستمعوا إلى برامجه مجانا (أو مقابل شراء غرشة نامليت أو فنجان شاي أو راس قدو)، حيث كان معظم المقاهي الشعبية يتصدره راديو كهربائي، موضوع على رف خشبي بعيدا عن الأيدي، بل ومغطى بلباس خاص يحفظه من الغبار.
وأتذكر، وأنا صغير أساعد والدي في محله التجاري الذي كان ضمن بضائعه أنواع مختلطة من أجهزة الراديو، أن بعضا ممن كان يأتي لشرائها كان يشترط وجود مطربه المفضل أو مطربته المفضلة داخل الجهاز، قاصدا بذلك ضرورة أن يلتقط الراديو أغانيه المفضلة، وإلا فسوف يعيده ويستعيد نقوده. وعليه فقد شاهدتُ وسمعتُ الكثيرين ممن كانوا يشترون الجهاز صباحا ويعيدونه مساء محتجين بعفوية وسذاجة: “هذا الراديو ما يطلــّع إلا صباح وفيروز، وحنـّا نريد زهور حسين وموزة خميس” أو ” اشترطنا عليك تعطينا راديو فيه حضيري بوعزيز، وعطيتنا واحد ما فيه إلا محمد زوّيد وفريد الأطرش”، وهكذا.
وبظهور الراديو الترانزستور خفيف الحمل، وخاصة من الماركات التجارية اليابانية مثل سوني، وتوشيبا، وأيوا، وهيتاشي، إنتهى عصر وبدأ عصر جديد، وصارت الصحف والمجلات مزدحمة بإعلانات تبدو مضحكة بلغة اليوم. من تلك الإعلانات أتذكر واحدا نشرته مجلة المصور المصرية، وجاء فيه ” الآن في الأسواق، راديو ترانزستور بكامله، ذو موجتين، بحساسية متناهية، نقال، مع مفتاح لضبط الصوت ومينا مضاءة!” وإعلانا آخر نشرته مجلة آخر ساعة المصرية، وجاء فيه “راديو ترانزستور .. يلغي الكهرباء .. يلغي اللمبات ..يلغي التوصيلات .. يعمل أينما كنت ..أنيس ومطيع .. يشدو بجانبك بأعذب الألحان والأنغام”.
لكن إلى ماذا كان يستمع أبناء جيلنا ممن تمكنوا من الإستحواذ على جهاز ترانزستور صغير، خلاف الأغاني العاطفية الجميلة لفريد وحليم وعبدالوهاب وفايزة وصباح وشادية ونجاة؟ كانت الخيارات واسعة بوجود الترانزستور. إذ كان الواحد منا بمجرد أن يستلقي فوق فراشه الرطب، ويلتحف السماء الصافية بنجومها وأقمارها، يترك العنان لخياله ليحلم بالشهادة الجامعية والوظيفة والسفر والحب، فيما أصابعه تحرك مؤشر الراديو يمينا أو يسارا بحثا عن رائعة من روائع كوكب الشرق من تلك التي كانت إذاعة القوات المسلحة من بغداد تبثها كل مساء، أو بحثا عن إذاعة لندن للغرف من الكنوز الأدبية والمعلوماتية التي كان ترد ضمن برنامجين من أشهر برامجها هما “قول على قول”، و”السياسة بين السائل والمجيب”، أو بحثا عما يلهب الحماس ويثيرالشعور القومي من أغان وبرامج دأبت إذاعة صوت العرب من القاهرة على بثها كل مساء، قبل أن نكتشف سذاجتنا وحجم الخديعة التي وقعنا فيها. أما من لم يكن يجد غايته هنا أو هناك فكان يلجأ، من باب التسلية والضحك، إلى إذاعة الأهواز باللغة العربية والتي كانت تذيع كل مساء نشرة أخبار مفصلة مقرؤة بلهجة أبناءعربستان العامية، وهي لهجة مطابقة للهجة العراقية الجميلة. ومن المفردات المكررة التي كانت ترد في النشرة مفردة “تشان” حيث كان المذيع يقول مثلا: “تشان يوصل الضيف إلى المطار، وتشان يدق له الحرس الشاهنشاهي النشيد الوطني، وتشان يسلم عليه جلالة الشاهنشاه آريا مهر وينطيه باقة من الورود وسط تصفيق الجماهير اللي جتي (جاءت) من كل متشان (مكان)”
واتذكر اني والكثير من الزملاء كنا نصادف، اثناء بحثنا في الترانزستور عن مبتغانا، بصوت هادر يقول “هنا إذاعة جيش الدفاع الإسرائيلي من أورشليم القدس”، لكننا من غير تردد كنا نسكته بالتحول إلى محطة إذاعية أخرى، لأننا كنا نرى في الإستماع إلى تلك الإذاعة للحظة واحدة عملا من أعمال خيانة القضية العربية.
أما الترانزستور في أيام الجمع فكان له طعم خاص. فالجمعة كانت بمثابة يوم عيد لنا لأننا لم نكن نـُركل فيه بالأرجل للإستيقاظ مبكرا من أجل الذهاب إلى المدرسة. وكان الترانزستور فيها رفيقا لنا للإستماع إلى إذاعة البحرين تحديدا. ففي أول النهار كنا نخشع مع تلاوات “عبدالباسط عبد الصمد” و”أبوالعينين شعيشع”. وبعده كنا نتمايل ونتأوه مع الأغاني العاطفية الجميلة المذاعة من خلال برنامج “مايطلبه المستمعون” الذي كانت فيه مقدمته “بدرية عبداللطيف” تسابق الزمن لإستعراض أسماء كل المـُهدين والمــُهدى إليهم، فإذا ما أعيتها الحيلة أشارت بتدوير إسطوانة الأغنية المطلوبة وهي لا تزال تردد من فلان إلى فلان أو فلانة، فيما عبدالحليم قد وصل إلى مقطع “بحلمبيك يا حبيبي أنا .. ياللي مليت أيامي هنا” أو “يامدوبني في أحلى عذاب .. بابعتلك بعنيــّة جواب” في رائعتيه الخالدتين: بحلمبيك، ونار ياحبيبي. بعد ذلك كنا نتأهب للفرفشة والضحك مع سكيتشات الراحل عتيق سعيد أو تعليقات سعيد الحمد الإجتماعية المتميزة. وكان مسك الختام هو الانتظار لحين إنتهاء الفترة المخصصة للطرب الشعبي من أجل الإنصات بإهتمام إلى نشرة أخبار الظهيرة، أحيانا بصوت الصديق “حسن كمال” المتميز، وفي معظم الأحايين بصوت المرحوم إبراهيم علي كانو الذي نقله المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة من وزارة التربية والتعليم إلى دار الاذاعة ونصبه رئيسا عليها في عام 1955 .
elmadani@batelco.com.bh
البحرين