ودع الليبيون السنة المنقضية واستقبلوا عام 2013 وهم سابحون في بحر من الجدل الحامي، لا ضفاف له على ما يبدو، محوره إقصاء من عملوا في أجهزة الحكم في ظل نظام العقيد معمر القذافي من المشاركة في الحياة السياسية في المستقبل.
وإلى حد الآن، تعذر الاتفاق على المظلة التي تشمل هؤلاء والمعايير التي يمكن اعتمادها لتحديد من والى النظام السابق ومن عارضه، فعدا المعارضين الذين استطاعوا مغادرة ليبيا بين 1969 و2010 اضطرت الغالبية الساحقة من أبناء البلد للعمل في الوزارات والإدارات والأجهزة الرسمية لكي يكسبوا قوتهم، وهو ما جعل بعض المحللين يُقدرون حجم من سيشملهم قانون العزل بمليون شخص (يُقدر العدد الإجمالي للسكان بـ 6.4 ملايين). وهذا يعني في مجتمع يُقدر متوسط حجم الأسرة فيه بستة إلى سبعة أفراد أن جميع أرباب الأسر في ليبيا تقريبا سيُبعدون من الحياة السياسية.
وفي تصريح لـ swissinfo.ch، يشرح الدكتور جمال محمد مبررات العزل بأن “كل من عمل مع نظام القذافي بحسن نية أو بغيرها منذ انقلاب 1969 ولم ينشق عن النظام أو يعارضه قبل 17 فبراير 2011 (تاريخ اندلاع شرارة الثورة) هو جزء لا يتجزأ من النظام”. بل إنه يرى في موجة الإنشقاقات بين سفراء القذافي في الخارج بعد اندلاع الثورة، وهي الإستقالات التي أفقدته شرعيته الدولية، وكذلك انشقاق وزرائه وقادة أركانه في الداخل، “دليلا على أنهم كانوا عنصرا مهما في بنيان النظام الدكتاتوري”.
الدكتور جمال محمد، الأستاذ في جامعة طرابلس لم يستثن أيضا “من كان يُلمّع صورة النظام إعلاميا ومن كان يعمل مع ابنه (سيف الاسلام) لتوريثه الحكم قبل ثورة فبراير بسنوات”، مُعتبرا أنه لولا هؤلاء جميعا “لما استطاع النظام الفاسد أن يستمر لأكثر من عام واحد”، وهو يشدد على ضرورة عزل “كل من عمل مع القذافي منذ 1969 حتى بداية ثورة فبراير (2011) وأي شخص كان يمثل مؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية وهيئات ابنه الإعلامية”.
اعتصامات وضغوط
ويمكن القول إن قطار العزل قد انطلق مع نهاية العام المنقضي، بعدما وافق المؤتمر الوطني العام (المؤلف من مائتي عضو) على مبدإ سن قانون العزل بأغلبية 125 عضوا، وشكل لجنة لصوغ مشروع القانون مؤلفة من ثمانية مستقلين وأربعة ممثلين للكيانات الحزبية، بالإضافة لخبراء في القانون لم يُحدد عددهم وكيفية اختيارهم. وتمت هذه الخطوة على وقع اعتصام مديد أمام مقر المؤتمر الوطني العام في طرابلس شكل بلا ريب ضغطا معنويا على الأعضاء.
لكن بقدر ما لقيت الفكرة من حماسة لدى قسم من النخب واجهت تحفظات لدى فئات أخرى حذرت من أن يكون العزل منطلقا “لإشعال حرب مستترة من نوع آخر بين الليبيين” كما قال الكاتب عبد الرحمن الشاطر. وأكد الشاطر لـ swissinfo.ch أنه مع قانون العزل السياسي لكن شريطة “أن يتم العزل بحكم قضائي وليس بحكم قانوني، بمعنى أن يتم العزل عن طريق محاكمة عادلة”، مُعبّرا عن خشيته “على تماسك الوطن من التجاوزات لدى تطبيق القانون”. ويمكن اعتبار هذا الجدل صدى لموقف مماثل في المناقشات الجارية في تونس حول الظاهرة نفسها، حيث شدد الخبير القانوني المعروف عياض بن عاشور على أن “لا إقصاء بلا قضاء” أي من دون أن يتولى القضاء تجريد المشتبه في ضلوعه في جرائم أمنية أو مالية من الحقوق السياسية والمدنية.
وفي نهاية المطاف، تركز الجدل على الفترة الزمنية التي تستوجب العزل، فهناك من أراد العودة إلى نقطة البداية، أي إلى الانقلاب الذي قام به القذافي ضد الملك ادريس السنوسي، وهناك من اعتبر أن الأمر يقتصر على فترة أقصر، وهو خلاف جعل الكاتب محمد يونس الدرسي يقترح الإحتكام إلى الشعب في استفتاء عام لحسم الأمر. ورأى الدرسي أنه لا يجوز لأعضاء المؤتمر الوطني العام أن يفصلوا في أمر يهمهم فيكونوا خصما وحكما في الآن نفسه، إذ “لا نتوقع أن يُقر شخص قانونا قد يتعارض مع مصلحته أو يتضرر منه هو أو قريبه” على ما قال.
مُسودات على المقاس
رغم التباعد المسجل في الطروحات الليبية، لوحظ أن الكيانات الممثلة في المؤتمر الوطني العام تسابقت لتقديم مسودّات القانون، وجاءت صيغها متوافقة أحيانا ومتباعدة، إذ أن كلا منها فصّل مسودّة مشروع قانونه من منظور واحد هو أن يُزيح خصمه من الساحة. وبذلك انطبقت على جميع تلك المشاريع المقولة المأثورة (كلمة حق أريد بها باطل)، و”الباطل” كما يقول الشاطر، هو أن “العزل لا يخدم قضية الثورة والوطن من حيث العموم، وإنما يمهد الساحة لاستيلاء هذا الكيان أو ذاك على المشهد السياسي ليسيطر على الحكم”.
في المقابل تمسك سياسيون آخرون بحق المواطنة وضوابطها في النظام الديمقراطي، على غرار رئيس حزب الوسط الديمقراطى الدكتور عبد الحميد النعمى الذي شدد في ملتقى نظمته مؤخرا دار الإفتاء ووزارتا الأوقاف والشؤون الإسلامية والحكم المحلي، على أن المواطنة هي “جملة من الحقوق والواجبات، وهى العلاقة بين الفرد والدولة من جهة وبين الفرد وأقرانه من جهة أخرى”. وأكد في هذا الإطار على أن المواطنة “هي عضوية كاملة في منظومة اجتماعية متمثلة في الدولة، وهي تكرس حق التساوي في المشاركة السياسية بوصفه ركنا أساسيا في النظام الديمقراطي”.
المحلل السياسي فاضل عبد اللطيف حاول من جهته تنزيل قانون العزل في سياق المناخ السياسي العام في ليبيا، ورأى في مناقشة المشروع وطرح القوى الفاعلة في المؤتمر لتصوراتها بشأنه “بوادر لتوجهات سلبية عكست مساعي كل طرف لإقصاء الطرف الآخر من دون مراعاة للمصلحة العليا، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض قرارات الحكومة المؤقتة”.
وفي تصريح لـ swissinfo.ch، حذر من عواقب هذا المناخ المشحون، قائلا: “إذا ما واصل المؤتمر والحكومة السير في نفس مسارات السلطتين السابقتين (التشريعية والتنفيذية) وخاصة من خلال التمسك ببعض القرارات المثيرة للجدل، التي لم تلق رضا من جانب قطاعات واسعة من الشعب الليبي، فان من شأنها زرع بذور عدم الثقة بين الشعب والسلطتين التشريعية والتنفيذية وتنامي مشاعر الغضب والإحباط، وبالتالي العزوف عن المشاركة السياسية في استحقاقات المرحلة القادمة”.
هذا الرأي لا يُشاطره الكاتب فرج بوخروبة الذي توصل بعد استعراض المسودات المقدمة للمؤتمر الوطني العام إلى استنتاج طريف مفاده أن “هذه المواد مُفصّلة بالسنتيمتر على مقاس المتخاصمين”، مؤكدا أن “الأجدر بممثلي الأحزاب، ما دام الشارع الليبي يرى في قانون العزل السياسي صيانة للثورة، الإتفاق على صياغة تلبي رغبة الشعب الحقيقية، وليس حسبما شاهدناه من مباراة أبطالها رؤساء الأحزاب، ووقودها دسّ السم لبعضهم البعض من خلال المواد التي تبناها كل مقدم مسودة”.