المنامة-
لا زال الكاتب والباحث الأكاديمي البحريني المتخصص في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي الدكتور عبدالله أحمد المدني منكبا على مشروعه القاضي بإصدار كتاب كل عام. وجديد المدني هذا العام غير مسبوق مقارنة بمؤلفاته السابقة، سواء لجهة الموضوع أو الشكل أو الحجم. فقد أصدرت له المؤسسة العربية للطباعة والنشر بالمنامة مؤخرا كتابا من القطع الكبير، تحت عنوان “النخب في الخليج العربي ، قراءة في سيرها”، بلغ عدد صفحاته نحو 800 صفحة.
في هذا السفر الموسوعي الضخم الذي يتماشى مع إهتمام المؤلف بالتأريخ الإجتماعي للبحرين والخليج، والذي سبقه إصداره لمؤلفات مشابهه في السنوات الأخيرة، يتناول المؤلف بالتفصيل جوانب من تاريخ منطقة الخليج العربي، المتميزة بهجرات الجماعات والأقوام وتغير الأشخاص والأمكنة، والزاخرة بألوان من العصامية والإجتهاد في سبيل الإرتقاء بالمجتمع وطلب العلم ونشر التنوير، وذلك من خلال الترجمة لأكثر من مائة من الشخصيات الخليجية القديمة والمعاصرة، رجالا وإناثا، من تلك التي لعبتْ أدوارا لا يمكن تجاهلها في بناء أوطانها، وتوطيد دعائم دولها، وإشاعة التنوير والتحديث في مجتمعاتها، والمشاركة في عملية التنمية السياسية أوالإقتصادية أو الثقافية أو الإجتماعية.
قدم للكتاب نخبة من أبرز مثقفي وأكاديميي الخليج من البحرين والكويت وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة. فقد كتب الأديب الإماراتي الأستاذ محمد أحمد المر، الذي كان إلى وقت قريب يشغل منصب رئيس المجلس الوطني الإتحادي في دولة الإمارات، قائلا: “في منطقتنا وإقليمنا نجد أنه لسنوات عديدة عانى المهتمون بالتوثيق التاريخي والعاشقون لسير أعلام المنطقة من العديد من المثبطات التي أعاقت نشاطهم في هذا المجال، فالدعم المؤسساتي والمادي شبه معدوم، ومراكز الأرشيف والمعلومات فقيرة في مقتنياتها، ودور النشر المهتمة بهذا النوع الهام من الإنتاج الفكري قليلة جداً. وعلى الرغم من كل تلك السلبيات والمثبطات برزت كوكبة من الكتاب الذين أبدعوا أعمالاً رائدة في هذا المجال تحمل قدراً كبيراً من التضحية والمغامرة، ويبرز من تلك الكوكبة اسم الصحافي والأديب والباحث البحريني الدكتور عبدالله المدني الذي عرفناه وعرفنا نتاجه البحثي والصحافي في مجال تعريف القارئ الخليجي والعربي بأهمية التخصص في شؤون القارة الآسيوية، ليس لأن فيها أغلبية بشرية وفيها التجارب التنموية الحديثة الرائدة، بل لأنها بشكل أساسي الأقرب لنا جغرافياً والأكثر تأثيراً في دولنا من النواحي السياسية والاقتصادية والحضارية”.
ثم يتحدث المر بايجاز عن محتويات الكتاب فيقول: ” جمع الكاتب أعلاماً من مختلف جوانب الإبداع والتميز فهناك من كانت له مساهمات سياسية رسمية وشعبية مثل (يوسف الشيراوي) و(عبدالعزيز الشملان) و(علي ميرزا حسين) و(عمران تريم) و(عبدالعزيز حسين) وهناك من برز في مجالات الأدب والفنون والرياضة مثل (حمد العلي القاضي) و(أحمد السقاف) و(عوض الدوخي) و(عيسى بن راشد) و(عبدالله حسين نعمة) و(خليل الرواف) و(أحمد العدواني) و(إبراهيم المدفع) و(سعيد بن أحمد البوسعيدي) وهناك من كانت له إسهامات في مجال الأعمال التجارية مثل (عائلة عرشي) و(عائلة فكري) و(عائلة بوحجي) و(جمعة الماجد) و(مرشد العصيمي) و(الحاج سلمان بن مطر) و(أحمد بن دلموك) و(الحاج موسى بن عبدالرحمن الرئيسي). وأضاف المؤلف إلى تلك الكوكبة مجموعة من الأعلام النسائية الخليجية مثل (فاطمة حسين) و(سارة أكبر) و(خولة الكريع) و(توحة وابتسام لطفي)، ومن الأعلام الأجانب الذين أثروا وتأثروا بالحياة في بعض مناطق الخليج والجزيرة العربية ذكر (توماس بارقر) و (تشالرز بلغريف) و(واندا جبلونسكي)” و “مبارك بن لندن”.
وكتب الأنثروبولوجي البحريني الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم في تقديمه للكتاب قائلا: “لقد كان لتنوع الشخصيات التي تناولها الدكتور عبدالله المدني، الفضل في كشف العديد من الموضوعات ذات الأهمية الحيوية في دراسة الجذور الاجتماعية والتاريخية للنُخب الخليجية. فنحن، إذاً، أمام العديد من الحكايات والتفاصيل السيرية المهمة التي تـُظهر لنا الكيفية التي استطاعت بموجبها هذه أو تلك من الشخصيات الخليجية تحقيق تلك النجاحات التي قد تكون أحياناً اقتصادية، أو سياسية، أو ثقافية، أو اجتماعية. وسوف نلاحظ أيضاً، إن تلك الشخصيات قد شقت طريقها نحو تقلد دور النُخب، بقدر كبير من المثابرة والجلد والذكاء، بل وأحياناً كثيرة بقدرة كبيرة على تحمل المعاناة، وكذلك الإقدام على اتخاذ قرارات مصيرية، ومكابدة العيش في بيئات ومجتمعات مغايرة لمجتمعاتها الأصلية، فقد رحل البعض منهم من أواسط نجد إلى بلاد الشام، وآخرين انتقلوا من العيش في مجتمعاتهم المحلية في بادية الإمارات والكويت وعُمان إلى المدن التجارية الساحلية كالمنامة ودبي والخبر والدمام وجدة ومسقط. أما البعض الآخر منهم فسوف تأخذه مسيرته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نحو الهند: إلى بومبي الفيكتورية، والبعض الآخر سيتجه، أيضاً، إما بهدف التجارة والبحث عن الرزق أو العلم، إلى البصرة ودمشق والقاهرة وجدة، وإلى لنجة وموانئ أخرى في بلاد فارس، بل سوف يتجه البعض منهم إلى باريس ولندن وبرلين.
أما أستاذ علم الإجتماع السياسي في جامعة الكويت الدكتور محمد غانم الرميحي فقد كتب في مقدمته نصا نستقطع منه التالي: “ إن الجيل الحالي من أهل الخليج لا يعرفون على وجه اليقين ما قام به أجدادهم من أعمال وما حققوه من إنجازات معتمدين على أنفسهم، رغم كل الصعاب التي واجهتهم. لذلك يأتي كتاب الدكتور عبد الله المدني الذي بذل فيه جهد الباحث المتعمق والمتابع والمدقق الرصين علامة من علامات المعرفة العلمية لهذه المجتمعات من خلال منهج سرد قصص الرجال الذين أخذوا على عاتقهم في مراحل سابقة بناء مجتمع وتكوين حياة وتحقيق مسيرة مستقرة ، هي بكل المقاييس ناصعة. بالنسبة لي فإن مجتمعات الخليج ، خاصة المطلة على ضفاف الخليج الغربي ، هي ما يمكن أن يسمى في علم الاجتماع (مجتمعات حدودية) Border Societies أي أنها مجتمع تكون من مجموعة هجرات في أزمان مختلفة، إما من الهضبة الايرانية أو سواحلها الغربية، أو من وسط نجد وما خلفها، أو من جنوب العراق، هذه الهجرة تعني البحث عن العيش والاستقرار معا، لقد كانت هذه المجتمعات بشكل عام تعتمد على خمسة من أنماط الإنتاج الإنساني قبل ظهور عصر النفط ، هي صيد السمك ورعى المواشي، والزراعة المحدودة، و الغوص على اللؤلؤ، وأخيرا التجارة. النمطين الاخيرين ( الغوص على اللؤلؤ والتجارة) هي ما جعل هذه المجتمعات تحتك بسواحل الهند وشرق افريقيا وأيضا إلى حد ما بعض دول أوربا، وتقبل ثقافة ونقل ثقافة، ذلك ما قام به رجال يسرد سيرتهم المؤلف .
وأخيرا قال الروائي والإعلامي القطري الدكتور أحمد عبدالملك عن المؤلف: “في كتابه الذي بين أيديكم اختار الدكتور المدني أن يُوثق لأهل الخليج توثيقاً معلوماتياً أميناً. فهو لا يكلُّ من البحث والتنقيب والسؤال ! وهذا ما جعل موضوعات هذا الكتاب نموذجاً غير مطروق من قبل، حيث أنه يوثق للشخصية ويوثق للزمان والمكان وما يحتويانه من مشاهد وملامح وأدوات العصر الذي يتحدث عنه. وهذا بلا شك جهد كبير وثري، لأن الكثيرين من أبناء الخليج الذين كانوا وراء بناء أوطانهم وتنمية مجتمعاتهم وتنوير مواطنيهم – كلٌ في مجال تخصصه – لم يُنصفهم لا التاريخ ولا التأليف”.