الحراك في الكويت يواجه نقدين أساسيين من قبل بعض المجاميع العلمانية المشتتة، ما جعلها ترفض المشاركة فيه، أو لا تتحمس لتشجيعه، وفي غالب الأحيان تفضّل عدم تغيير الوضع السياسي في البلاد.
النقد الأول ينطلق من ادعاء بأن أغلبية القائمين على الحراك لا يؤمنون بالقيم العلمانية التي تتكئ عليها الحياة الحديثة، كمعاداة بعض الحريات، وبالذات الفردية، ومناهضة حقوق الإنسان، ومحاربة التعددية بمختلف تفرعاتها، وبالتالي فإن ذلك – حسب رؤية هؤلاء العلمانيين – سيقود إلى معاداة الأسس التي من المفترض أن يتحرك المجتمع على أساسها لإصلاح الوضع أو تغييره.
يشدّد النقد الثاني على أن نتيجة الحراك ستفضي إلى هيمنة تلك الأغلبية على الحياة السياسية والاجتماعية، أو على الحياة العامة إن صح التعبير، وأنّ هذا من شأنه أن يساهم في تحويل الحياة إلى جحيم، وأن يفضي إلى اختفاء الآمال الحداثية التغييرية التي توقعها البعض من الحراك لتحل محلها صور مختلفة من الوصاية الإسلام/قبلية، حيث سيؤدي ذلك – حسب ما يعتقدون – إلى بدء فترة زمنية شبه ظلامية لا يمكن التنبؤ بنهايتها.
وفي ضوء هذين النقدين، يبرز سؤال حيوي: لماذا يصر الكثيرون في الغرب الحداثي، حكومات ومؤسسات حقوقية وخبراء، على الوقوف إلى جانب الحراكات والثورات العربية، على الرغم من أن الغرب يعي المحاذير التي يطرحها العلمانيون، في الكويت أو في غيرها، ويعلم بأن نتائج ذلك ستفضي (في أغلب الدول) إلى تسيّد الإسلاميين للحكم، وبالتالي إلى إمكانية “تراجع” صور الحياة الحديثة بعد تراجع مفاهيمها؟
يبدو أن الغرب يستلهم تجربة حزب العدالة والتنمية التركي كمدخل لتعزيز رأيه في الدفاع عن الحراكات والثورات لتكون بديلا لأي تغيير جديد في المنطقة العربية. كذلك يبدو أنه واثق من أن أيديولوجيا النظام الإسلامي، الطاردة للآخر، والفارضة لحكم الحزب الواحد، والمناهضة لكثير من مفاهيم الحداثة، والمعادية لمعادلات النظام العالمي الجديد، كالأيديولوجيا المعمول بها في إيران ولاية الفقيه وفي سودان عمر البشير، لا تشكل مدخلا سياسيا ولا أرضية ثقافية للحراكات والثورات. لذلك بدا للغرب أن تجارب الثورة في تونس ومصر وليبيا تنبؤ (حتى الآن) بذلك، وأنّ تطورات الأوضاع في اليمن لا تدلل على غير ذلك، وأنّ مسار الحراك البحريني يسير في نفس الاتجاه. لذا من الطبيعي أن يستلهم الكويتيون التجربة مما يجري في محيطهم السياسي والثقافي، وأن يستندوا في ذلك إلى الموقف الغربي الداعم، على الرغم من تفاوت صور الدعم والتأييد من دولة إلى أخرى.
إذاً، يبدو الغرب بصدد دعم الإسلام المعتدل المنتمي في غالبه إلى المجتمعات السنية كبديل عن الإسلام المتطرف. ويعول على ذلك بالقول بأن هذا النوع من الإسلام قادر على التعايش مع مفاهيم الحداثة، وبأنه سينشغل بمسائل الحياة الحديثة أكثر من انشغاله بالأمور الدينية، وسيستطيع التعاطي مع مصالح الدول الغربية (بسبب تشابك المصالح الدولية)، وأن المحصلة النهائية لهذا الدعم والتعاطي والانشغال هو إضفاء مزيد من العلمانية على هذا الإسلام، وهو ما قد يفضي إلى تعايشه في واقع حداثي يشاركه فيه الآخر غير المنتمي للتيار الديني، وأن ذلك كلّه يسير بالتزامن مع ضعف التيارات العلمانية في المجتمعات العربية، كما يسير في إطار التعلّق القوي للناس بالدين. ولعل الغرب يدرك بأن الإسلام المؤدلج، والمتطرف، لا يملك مشاريع تستطيع أن تتعايش مع الحداثة، وأن بديل ذلك هو دعم الإسلام المعتدل، الخارج من رحم الثورات والحراكات العربية.
يقول برايان كاتوليس من مركز التقدم الأمريكي أثناء نقاش جرى في اكتوبر حول الحراكات والثورات العربية، ونقلت بعض ذلك الـ”واشنطن تايمز”: “إن الإسلاميين الفائزين بالانتخابات يتغيرون ويصبحون أقل تمسكا بالأيديولوجيا وأكثر ميلا للبراغماتية والممارسة العملية. وهم في هذا يتطورون ردا على تقلبات السياسة ليركزوا بعد ذلك على تأمين الحاجيات الأساسية كالأمن والوظائف”. ويقول ريويل مارك جيريخت من مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات، والذي شارك في النقاش، أنه يتوقع أن يصبح الإسلاميون الذين كانوا متشددين في العراق، ديموقراطيين بعمق إن لم يكونوا ليبراليين.
قد يقول البعض بأن بروز الإسلام المعتدل ليس هو النتيجة الوحيدة للحراكات والثورات العربية، وأن هناك نتائج عدة أخرى أفرزتها وستفرزها، من أبرزها الظهور الجديد للإسلام المتطرف، وسعيه لتثبيت أقدامه في المجتمع وفرض رؤاه التاريخية على الواقع (كما هو حاصل في مصر وتونس). نعم، هذا ما تفرزه الحراكات والثورات الجديدة. فهي تعبير سياسي/ اجتماعي صارخ ضد القمع والتفرّد بالقرار الذي كانت تمارسه الأنظمة تجاه مكونات المجتمع. ومن ثمّ فإن بروز مختلف القوى المقموعة في السابق هو نتيجة طبيعية للواقع الحراكي الجديد، ومنها القوى الدينية المتطرفة. غير أن هذه القوى لا يمكن أن تعبّر عن نفسها إلا في ظل تبني إطار سياسي جديد للتعايش، لتستطيع من خلاله أن تحافظ على وجودها، هذا أولا، وأن تتبرأ من أي نهج فردي قمعي إقصائي كالذي كان يتميز به سلوك النظام قبل إصلاحه أو تغييره، هذا ثانيا. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتبني نظام ديمقراطي تعايشي.
نعم، إن فصل الدين عن الدولة هو الضمانة الوحيدة لتحقيق الديموقراطية، لكن ذلك لا يمكن أن يتم عن طريق وصفة طبية فورية تتحقق من خلالها أمنية الديموقراطية الحقيقية في فترة زمنية وجيزة، بل الديموقراطية هي حالة معرفية تراكمية تساندها مرحلة طويلة من التجارب، وحينما تتزيف، تُفتح الآفاق للمعالجة، ومن تلك المعالجات دعم الحراكات، ما يؤكد حاجتها إلى كورس علاجي طويل شبيه بالكورس العلاجي الذي يوصف للأمراض النفسية. وباعتقادي، هذا ما يحاول الغرب، بسياسييه ومثقفيه ومؤسساته المدنية، أن ينقله إلينا بدفاعه عن الثورات والحراكات ووقوفه إلى جانبها. وهذا ما يفسر التصريحات المعبّرة عن انزعاج كبير والصادرة من بعض المسؤولين في الأنظمة العربية التي تواجه الحراكات، والتي يحذرون وبصورة تهويلية غير معقولة من خطورة الإسلام الجديد (المعتدل) وينددون بالدفاع الغربي عنه.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com