1. المقدمة
في أواخر أيلول/سبتمبر، وجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان دعوة إلى نظيره العراقي نوري المالكي لزيارة اسطنبول لحضور المؤتمر القادم لحزبه الحاكم، الأمر الذي اعتُبر بارقة أمل وبادرة طيبة لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين التي شابها مزيد من التوتر في الأشهر الأخيرة. ولكن المالكي رفض الدعوة مبرراً موقفه بانشغاله في خطط سفر أخرى. وهكذا، مرة أخرى، لم يأت الضيوف العراقيون إلى تركيا من بغداد بل توافدوا من أربيل، عاصمة “حكومة إقليم كردستان”. فقد أصبح هذا المشهد هو الأكثر شيوعاً، حيث يعمل الأكراد العراقيون على التقرب بشكل وثيق من أنقرة في الوقت الذي تنجرف فيه بغداد بعلاقاتها بعيداً عنها.
هناك عاملان إقليميان فعالان قد عززا هذا التحول. أولهما هو تحقيق التقارب بين “حكومة إقليم كردستان” وأنقرة منذ عام 2007، بمبادرة من الأكراد كوسيلة لموازنة النفوذ الإيراني في العراق ومواجهة النزعات المركزية في بغداد. ومن أجل تنفيذ هذه الاستراتيجية التدريجية والناجحة في الوقت نفسه، فقد قدمت “حكومة إقليم كردستان” إغراءات عديدة لتركيا مثل منح مشاريع البناء الكبرى للشركات التركية (على سبيل المثال، مطارات أربيل والسليمانية). ومن جانبها عملت واشنطن جاهدة على تعزيز هذا التقارب بعد غزو العراق عام 2003، خوفاً من اندلاع صراع بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان”.
العامل الثاني والأكثر حداثة هو عدم الاستقرار الإقليمي النابع عن “الربيع العربي”. وتأتي أنقرة في طليعة المعارضة الإقليمية لنظام الأسد في سوريا كما أنها تمتعض من الدعم الإيراني لدمشق وتشجبه بقوة. وتبدو تركيا على اقتناع تام بأن طهران لها تأثيرا ونفوذا على بغداد. لذا فإنها أصبحت تؤمن بأن محورا “شيعيا” بقيادة إيران آخذ في التشكل على حدودها الجنوبية ويمتد من العراق إلى سوريا. وقد أدت وجهة النظر هذه إلى قيام أنقرة بالبحث عن حلفاء لمواجهة هذا المحور، بما في ذلك “حكومة إقليم كردستان” وسكان العراق من العرب السنة.
بالإضافة إلى ذلك، كثف “حزب العمال الكردستاني” من أنشطته الإرهابية في تركيا، مما أدى إلى وقوع أكثر من 700 قتيل جراء أعمال العنف المرتبطة بـهذا الحزب التركي خلال الأشهر الأربعة عشر الماضية. وترى أنقرة أن نظامي الأسد وطهران هما اللذان يقفان وراء هذا التهديد ويدعماه. فعلى سبيل المثال، اتهم نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج، إيران بدعم “حزب العمال الكردستاني” في التفجير الذي وقع في “غازي عنتاب” في آب/أغسطس 2012، وقد تسربت تقارير عن حدوث اتصالات إيرانية مع نشطاء من “حزب العمال الكردستاني”. ومن شأن هذه الفاعلية المستمرة تسريع التقارب وتجديد العلاقات بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان” – وعلى وجه الخصوص تأمل أنقرة في جذب أربيل لمواجهة معاقل “حزب العمال الكردستاني” في جبال قنديل المتاخمة للأراضي التي تسيطر عليها “حكومة إقليم كردستان” في شمال العراق.
وفي الوقت نفسه أضرت هذه التطورات ذاتها بالعلاقات القائمة بين أنقرة وبغداد. وترى الحكومة العراقية أن تعاملات تركيا المباشرة مع أربيل تُعد بمثابة إهانة لسلطتها وتحقيراً لنفوذها، كما أن ازدراء أنقرة للمالكي لم يؤد سوى إلى تفاقم المشكلة.
وتضيف الثروة التي تملكها “حكومة إقليم كردستان” في مجال الطاقة عنصراً آخراً قوياً لهذا المزيج. وعادة ما نظرت تركيا إلى بغداد على أنها المتفاوض الوحيد حول صفقات الطاقة مع العراق، وذلك تمشياً مع الإجراءات الدولية المقبولة وتفسيرها للدستور العراقي. كما تواصل تركيا تأكيدها بعدم حدوث أي تغيير في هذه السياسة، إذ يؤكد وزير الطاقة التركي تانر يلدز أن أنقرة ستسعى جاهدة للحصول على موافقة بغداد قبل الاتفاق النهائي بشأن إبرام أي صفقة بخصوص خطوط الأنابيب مع “حكومة إقليم كردستان”. بيد أن هذا الضمان غير مؤكد على خلفية علاقة أنقرة السيئة مع المالكي.
وفي الواقع، يمكن أن تنذر المناورات التجارية الأخيرة بحدوث تحول جذري في الموقف التركي تجاه العراق. فلقد عصفت مجموعات التحولات الإقليمية السريعة الناجمة عن الثورات العربية والانسحاب الأمريكي من العراق بالعلاقات القائمة بين أنقرة وبغداد. وتواجه تركيا الآن مجموعة من التحديات الجديدة، بدءاً من “حزب العمال الكردستاني” الناهض ومروراً بالأزمة المشتعلة في سوريا وإلى تزايد المنافسة مع إيران. وفي ظل هذه البيئة المضطربة، تُزامن “حكومة إقليم كردستان” سياساتها مع سياسات أنقرة. وإذا استمر هذا الأسلوب، فبإمكان ذلك أن يحفز تحويل مسارات تدفق خطوط الأنابيب التي تلائم إعادة توجيه علاقات تركيا الاستراتيجية مع بغداد وأربيل، مع تداعيات كبيرة على السياسة الأمريكية.
وبشكل عام، فقد تحققت أمنية واشنطن الطويلة الأمد حول توثيق العلاقات بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان”. وفي حين أن عوامل، مثل توتر العلاقات بين أنقرة وبغداد، قد أثارت مخاوف أمريكية بأن عملية التقارب ربما قد سارت على نحو جيد أكثر مما ينبغي، تأتي هذه الديناميكية متزامنة مع سياسات الموازنة – التي تتمثل تحديداً في مخاوف “حكومة إقليم كردستان” من التقارب بشكل وثيق مع تركيا خشية أن يثير ذلك حفيظة إيران. وبأخذ هذه العوامل في عين الاعتبار، قد يصل التقارب بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان” إلى نقطة تشبع، على الرغم من أنه من المرجح أن تبقى العلاقة بينهما حميمية على المدى القريب.
2. الانجراف بعيداً عن بغداد
كان الدعم التركي التلقائي لبغداد والشك الهيكلي [الشك الذي يجعل أولئك الذين يشغلون مناصب سياسية، يسنون أو ينفذون قوانين تساعدهم على الحفاظ على قبضتهم على السلطة] للأكراد العراقيين حتى وقت قريب، السمة المميزة لسياسة أنقرة الخارجية على مدار عقود، وغزو العراق عام 2003 قد بلور هذه النظرة. وقد شعرت أنقرة أنها مهددة من انفعال الأكراد عقب الغزو الأمريكي للعراق، كما أن هجمات “حزب العمال الكردستاني” من شمال العراق الواقع تحت سيطرة الأكراد قد أضافت شعوراً قاتماً بالإلحاح حول هذه المخاوف. ومما جعل الأمور أكثر سوءاً هو توقف دعم الأكراد لأنقرة في مواجهة “حزب العمال الكردستاني” فور التخلص من شبح صدام حسين الذي كان جاثماً فوق صدورهم. وقد كان ذلك ابتعاداً مريراً عما كان سائداً في أواخر تسعينات القرن الماضي عندما ساعد الزعيم الكردي مسعود بارزاني تركيا على مواجهة “حزب العمال الكردستاني” مقابل حماية أمريكية من صدام تم تزويدها عبر الأراضي التركية ومجالها الجوي.
من جانبها ردت تركيا على تعنت الأكراد العراقيين بقيامها بعمليات عسكرية دورية في شمال العراق لضرب أهداف تابعة لـ”حزب العمال الكردستاني” لم تكن على استعداد لمواجهتها [من قبل]. كما سعت تركيا في كل مناسبة – خشية نهوض القومية الكردية – إلى تقويض مساعي الأكراد العراقيين للحصول على حكم ذاتي موسع، وذلك بإقامتها علاقات وثيقة مع المجتمع التركماني في المنطقة والعمل على الحد من النفوذ الكردي في إقليم كركوك المتنازع عليه. وفي المقابل، استغل بارزاني – الذي أصبح في هذه الأثناء رئيس “حكومة إقليم كردستان” – خوف تركيا الشديد من النزعة الانفصالية الكردية بإبرازه سوء المعاملة المزعوم للأكراد في جنوب شرق تركيا. وحتى أواخر 2007، كانت تركيا تلقي اللوم على “حكومة إقليم كردستان” بسبب هجمات “حزب العمال الكردستاني” وتهدد بفرض عقوبات اقتصادية على المنطقة الكردية. وخلال تلك الأوقات المتوترة، كان عداء أنقرة تجاه “حكومة إقليم كردستان” كبيراً إلى درجة أنها لم تسمح حتى لممثلي الأكراد العراقيين بدخول تركيا لإجراء محادثات.
وفي ظل هذه الظروف، كانت بغداد هي المستفيدة التلقائية من تلك المنافسة لنيل الدعم التركي. وعلى الرغم من أنه لم يكن للحكومة المركزية في العراق نفوذ قوي على “حزب العمال الكردستاني”، إلا أن أنقرة بقيت مصممة على تعميق العلاقات مع بغداد حتى وإن كان ذلك انطلاقاً من إيمانها بأن وجود سلطة مركزية قوية سيكون بمثابة ثقل مقابل للتطلعات السياسية للأكراد. وعلى نطاق أوسع، كان “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا معروفاً بسياسته الخارجية المتمثلة بـ “تصفير المشاكل مع دول الجوار”، حيث تبنى قيام علاقات أعمق مع العراق وروسيا وسوريا وإيران. وقد نتج عن هذا الدافع قيام روابط مؤسسية على أعلى المستويات مع بغداد، بلغت ذروتها في قمة تشرين الأول/أكتوبر 2009 عندما تم توقيع ما يزيد على 40 مذكرة تفاهم حول مواضيع تتراوح بين الحوار الأمني الاستراتيجي إلى التجارة والتعاون في مجال الطاقة. وقد عملت مثل هذه المبادرات على زيادة حجم التبادل التجاري الثنائي بصورة سريعة ومهدت الطريق للشركات التركية والمستثمرين الأتراك للاستفادة من الفرص السانحة في الدولة المجاورة. فعلى سبيل المثال أصبحت العراق أكبر سوق لشركات الإنشاء التركية في الشرق الأوسط – في الأشهر الستة الأولى من عام 2012 كانت أكثر من نصف المشاريع الجديدة، التي خططت تلك الشركات القيام بها في المنطقة، مخصصة لمناطق العراق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المركزية في بغداد.
بيد أن البعد السياسي للعلاقات الثنائية قد أظهر بالفعل بعض علامات التراجع في الوقت الذي سعى فيه المالكي إلى اعادة انتخابه في عام 2010. فعلى مدار الأربعة أعوام الماضية اتجهت حكومته الموالية للشيعة نحو المركزية وهي السياسة التي لاقت تأييداً من أنقرة من حيث المبدأ إلى أن بدأ حكم المالكي يميل نحو استبداد مقلق ذو طابع طائفي. لذا عندما فاز تكتل “العراقية” المنافس للمالكي بأغلبية نسبية ضئيلة في الانتخابات البرلمانية عام 2010 رأت أنقرة في ذلك فرصة للوصول إلى توافق طائفي أكبر في بغداد. وقد كان رئيس تكتل “العراقية” إياد علاوي هو المفضل من قبل تركيا بسبب نزعته القومية العراقية وبرنامجه غير الطائفي – وفي الواقع، عملت أنقرة من وراء الكواليس على إقناع الأحزاب السنية العربية بالاتحاد تحت لوائه انطلاقاً من الروابط الوثيقة التي عملت على إقامتها مع ذلك الجمهور منذ سقوط صدام.
بيد أن الاختيار الذي فضلته أنقرة لم يأت في الطليعة في المفاوضات الخاصة بتشكيل الحكومة. فمع الموافقة الأمريكية الواضحة أبرمت الأحزاب العراقية اتفاقاً في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 يقضي بترك المالكي في منصب رئيس الوزراء مقابل تعهدات بإشراك تكتل العلاوي في السلطة، وهو الاتفاق الذي لم يحترم المالكي معظم بنوده. وبالإضافة إلى وضع أنقرة في موقف حرج أثبتت هذه الصيغة عدم فعاليتها على الفور تقريباً من خلال قيام أنصار علاوي باتهام المالكي بفشله بالالتزام بنصيبه من الصفقة.
وبالنسبة لتركيا فقد جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير في اليوم الذي تلا الانسحاب الرسمي للقوات الأمريكية من العراق في كانون الأول/ديسمبر 2011، عندما أصدرت بغداد مذكرة اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية السني طارق الهاشمي بتهمة الإرهاب. وبعد بقائه [مدة وجيزة] في منطقة “حكومة إقليم كردستان” وقيامه برحلة قصيرة إلى قطر، قبِل الزعيم الهارب عرض تركيا بمنحه حق اللجوء. ومنذ ذلك الحين يجري الهاشمي مقابلات متكررة مع رئيس الوزراء التركي ورئيس الجمهورية ورئيس المخابرات بالإضافة إلى تزويده بالحراسة اللازمة. وبعد قيام الانتربول بإصدار “نشرة حمراء” تهدف إلى تسهيل إلقاء القبض على الهاشمي، أكد نائب رئيس الوزراء التركي بشير أتالاي التزام تركيا بحمايته بقوله: “الهاشمي هو ضيف بلدنا في الوقت الحاضر ونحن نهتم بضيوفنا ونحافظ عليهم.” وفي أواخر تموز/يوليو 2012، منحت أنقرة تصاريح للهاشمي والوفد المرافق له تسمح لهم بالإقامة الدائمة في شقق في اسطنبول.
ومع تفاقم التوترات بشأن أزمة الهاشمي، أجرى المالكي مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” كشف خلالها مدى توتر العلاقات العراقية التركية:
نرحب [بقيام تركيا] بالتعاون معنا اقتصادياً، ونحن منفتحين [تجاههم]، لكننا لا نرحب بالتدخل في المسائل السياسية … فتركيا تتدخل من خلال دعم بعض الكتل والشخصيات السياسية. لقد اعترضنا باستمرار على تدخل سفيرهم السابق في السياسة المحلية، وقد اعترف مسؤولون بأخطائهم.
وبالنسبة لرئيس الوزراء أردوغان الذي يميل إلى جعل قضايا السياسة الخارجية مواضيع شخصية، فقد اعتُبرت اتهامات المالكي العلنية إساءة مباشرة. وحيث جاءت في أعقاب الخطوة التي اتُخذت ضد الهاشمي، فقد حددت تلك التصريحات اللهجة التي أدت إلى تفاقم الخلاف بين الزعيمين، حيث قامت أنقرة باتهام المالكي بتأجيج الطائفية بينما أكدت بغداد أن تركيا تتدخل في شؤون العراق الداخلية. وقد وصلت هذه الحدة إلى مستويات منخفضة جديدة في نيسان/أبريل عندما وصف أردوغان المالكي بأنه “أناني” واتهمه بإثارة صراع طائفي. ورداً على ذلك ندد المالكي بتصرف تركيا ووصفه بأنه سلوك “دولة عدوانية”. وبعد ذلك بفترة وجيزة، في أيار/مايو، قام متظاهرون في البصرة بإحراق العلم التركي وهددوا سير العمليات التجارية التركية في العراق. وقد اعتذرت بغداد رسمياً عن تلك الأحداث، وكانت قد أرسلت سابقاً – في نيسان/أبريل – مبعوثين إلى أنقرة بهدف تحسين العلاقات بين البلدين. كما أن أردوغان مد يده للسلام بتوجيه دعوة للمالكي لحضور مؤتمر “حزب العدالة والتنمية” التركي في 30 أيلول/سبتمبر. إلا أن المالكي رفض الدعوة ولم يحدث حتى الآن تقارب بين الطرفين. وفي الواقع، لم تقل حدة ذلك التوتر بصورة كبيرة خلال الصيف والخريف حيث استمر الطرفان في رفع شكاوى دبلوماسية والانهماك في صراع رمزي من باب العين بالعين والسن بالسن. وفي تموز/يوليو، على سبيل المثال، اتهمت بغداد تركيا بانتهاك مجالها الجوي وفرضت حظراً مؤقتاً على تحليق الطائرات التركية في مجالها الجوي بحجة وجود “مشاكل فنية”. كما أعرب المسؤولون العراقيون عن نفاد صبرهم من اختراقات الطائرات التركية من خلال مطاردتها مقاتلي “حزب العمال الكردستاني”، وتقوم بغداد بتصليب لهجتها ضد هذه العمليات حتى في الوقت الذي تواجه فيه تركيا عدداً متزايداً من هجمات “حزب العمال الكردستاني” من قواعد في الخارج.
ولو تم حصر هذه المشاكل في نطاق الخصام بين زعيمين لكان هناك صدى للمساعي الرامية لرأب الصدع بينهما. ولكن تلك الانشقاقات في العلاقات الثنائية متأصلة في عملية إعادة ترتيب الصفوف الفوضوية في المنطقة من جراء “الربيع العربي” والانسحاب الأمريكي من العراق. وفي هذا الجو الملبد بالفوضى تنجرف بغداد وأنقرة عن بعضهما البعض بشكل أكبر.
3. اتفاق مستبعد
قبل بدء الثورات التي اجتاحت العالم العربي في كانون الأول/ديسمبر 2010 ارتبطت العلاقات التركية العراقية ببنية أمنية إقليمية واسعة توطدت في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وتم صياغة الركيزة الأولى في تلك الترتيبات في بروتوكول أضنة من عام 1998 والذي تعهدت سوريا بموجبه بوقف دعمها لـ “حزب العمال الكردستاني”. وقد انضمت إيران إلى ذلك الاتفاق في عام 2003 ووصلت إلى حد قصف مخيمات “حزب العمال الكردستاني” الذي كانت تدعمه ذات مرة. وقد حدا طهران الأمل بأن تؤدي مبادرات من ذلك القبيل إلى تحسين العلاقات مع تركيا وإحداث وقيعة بين أنقرة والولايات المتحدة.
وردّت تركيا الجميل من خلال تعميق علاقاتها مع دمشق وطهران وعدم تدخلها في شؤونهما الداخلية. وبفضل تلك الترتيبات لم تؤثر حالة الفوضى التي اكتسحت العراق بعد عام 2003 على العلاقات التركية الإيرانية أو تمنع أنقرة ودمشق من توسيع اندماجهما الاقتصادي والاجتماعي. وفي الآونة الأخيرة عندما برز محمود أحمدي نجاد كمنتصر مشكوك فيه في الانتخابات الإيرانية الرئاسية المزورة عام 2009، كان رئيس الوزراء التركي أردوغان من بين أوائل القادة في العالم الذين أرسلوا إليه التهاني. وفي عام 2010، أبدت أنقرة ثقتها في نية إيران الحسنة من خلال سعيها إلى التوصل إلى اتفاق نووي وتخفيف الضغوط الدولية على طهران. وفي الوقت نفسه، استفادت العلاقات مع دمشق من الصداقة الشخصية بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد.
بيد أن “الربيع العربي” هدّم أسس هذا التوافق. وعلى وجه الخصوص، دفعت حملة القمع الدموية في سوريا إلى قيام تركيا بعكس علاقتها تماماً مع نظام الأسد، في حين أدى دعم إيران النشط لحليفها الاستراتيجي في دمشق إلى وضعها في موقف معارض لتركيا. وحتى في الوقت الذي ترسل فيه أنقرة مساعدات مادية وتقدم دعم سياسي إلى المتمردين السنة في سوريا، عملت إيران على نشر وحدات عسكرية لدعم قوات الأسد.
كما أن مشكلة الدعم الإيراني والسوري لـ”حزب العمال الكردستاني” قد برزت من جديد على الساحة، حيث استأنفت دمشق سياستها في دعم الجماعة لمجابهة السياسات التركية المناهضة للنظام. وفي ربيع عام 2012 وردت تقارير مفادها بأن دمشق سمحت لحوالي 2000 عضو من أعضاء “حزب الاتحاد الديمقراطي” وهو مجموعة سورية فرعية لـ “حزب العمال الكردستاني” بالانتقال من مقاطعة قنديل في شمال العراق إلى سوريا. ومؤخراً، ألقى مسؤولون أتراك اللوم على سوريا لدعمها “حزب العمال الكردستاني” الأمر الذي يعكس نظرة أنقرة بأن دمشق تؤيد الآن الجماعات المسلحة. وقد جاء ذلك بعد قيام “حزب العمال الكردستاني” بتفجيرات في آب/أغسطس في المركز التجاري الجنوبي الشرقي من غازي عنتاب – مدينة تركية كردية مزدهرة سبق أن نجت من عنف كهذا – مما أثار شكوك أنقرة حول تواطؤ سوريا و”حزب العمال الكردستاني” على زعزعة استقرار تركيا.
وفي الوقت نفسه، انهمكت تركيا وإيران في صراع تجاري وسياسي في العراق زادت حدته وأخذ صبغة طائفية جلية منذ انسحاب القوات الأمريكية عام 2011. ويجمع صانعو السياسة التركية على نحو متزايد فكرة وقوع رئيس الحكومة العراقية تحت نفوذ إيران. كما أن وزير الخارجية التركي الأسبق ياسر ياكيس- دبلوماسي محنك يمثل المؤسسة العلمانية في الشؤون الخارجية ولكنه عضو أيضاً في “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، وهو حركة ذات جذور إسلامية سنية – جادل مؤخراً بأن طهران مصممة على إقامة سلسلة من الدول الموالية للشيعة تمتد من إيران إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. ومن ناحية أنقرة، فإن تداعيات مثل هذه السياسة جلية وواضحة وهي: قيام هلال شيعي تدعمه إيران يعمل على إعاقة النفوذ التركي في الجنوب ويروّج لنموذج سياسي طائفي معادي لمصالح تركيا. وقد تم تفسير ممانعة بغداد على الوقوف بقوة أمام الأسد كمؤشر على موقفها في هذا الترتيب الجديد، وهو الأمر بالنسبة للتقارير التي أفادت بأن العراق يساعد إيران على تجنب العقوبات الدولية.
إن الفكرة بأن رئيس الوزراء المالكي يسعى وراء أجندة موالية للشيعة تدعمها إيران قد كبحت العلاقات التركية مع بغداد ودفعت أنقرة إلى إعادة تقييم موقفها من “حكومة إقليم كردستان”. ويعتبر هذا الانعكاس بادرة أمل للأكراد العراقيين ممن يبحثون عن ثقل موازن لبغداد في الوقت الذي تُقلَّص فيه الولايات المتحدة – التي هي حارسهم في المنطقة – من دورها في تلك البلاد.
وقد أصبحت علامات تحوّل مواقف أنقرة تجاه العراق واضحة للجميع في حزيران/يونيو 2010 عندما قام رئيس “حكومة إقليم كردستان” مسعود بارزاني بزيارة تركيا للمرة الأولى منذ ست سنوات. وبعد ذلك بوقت قصيرأنشأت أنقرة قنصلية في أربيل ومنذ ذلك الحين حدث تحسن في الحركة الدبلوماسية. إلا أن تلك التحركات الخاصة بالسياسة الجديدة باتت واضحة وجلية بدءً من خريف 2007، على الأقل وراء أبواب مغلقة: فعلى الرغم من استمرار أنقرة في انتقاد “حكومة إقليم كردستان” علانية في ذلك الحين، إلا أنها كانت تتعاطى مع الأكراد سراً وتخوّل المسؤولين الأتراك بالاجتماع بقيادة “حكومة إقليم كردستان”. وأدى ذلك الحوار إلى تحسين التفاهم المتبادل بين الجانبين – حتى عندما قامت تركيا بعمليات توغل عسكرية متكررة في شمال العراق لملاحقة مقاتلي “حزب العمال الكردستاني”. وقد قطع الطرفان شوطاً طويلاً خلال الأعوام التي أعقبت مباشرة الغزو الأمريكي للعراق عندما طالب قادة “حكومة إقليم كردستان” مراراً وتكراراً بأن تبقى أنقرة بعيداً عن شمال العراق واتهموا تركيا بجلب “الفوضى” إلى البلاد.
واليوم، في خضم التوترات المستمرة بين تركيا والحكومة العراقية، نمت العلاقات الوليدة بين أربيل وأنقرة وأصبحت تمثل تحالفاً غير معلن ضد بغداد. ولا يزال المسؤولون في وزارة الخارجية التركية يقومون بانتظام بزيارات مكوكية إلى أربيل لإجراء مشاورات مع “حكومة إقليم كردستان” دون أن يتوقفوا لزيارة بغداد. وقد انتقدت حكومة المالكي هذه الزيارات ووصفتها بأنها “محظورة” واستشاطت غضباً من جراء ما اعتبرته مكيدة ضد الحكومة المركزية. وبدورهم قام مسؤولون في”حكومة إقليم كردستان” بسلسلة من الرحلات إلى تركيا حظيت بتغطية إعلامية مكثفة، الأمر الذي أكد ذلك التحول في اللهجة.
بيد أنه حدث أكبر خروج عن نظام المراسم في آب/أغسطس 2012 عندما قام وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بزيارة مفاجئة لكركوك المتنازع عليها – ومرة أخرى دون أن يتوقف في بغداد – لمقابلة الجماعات التركمانية العراقية السياسية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي ترسل فيها أنقرة وزير خارجيتها إلى كركوك خلال فترة دامت أكثر من ثلاثة عقود، وبذلك بعثت إشارة واضحة مفادها أن تركيا على استعداد لانتهاك العرف المقبول لدعم مصالحها في العراق. وغني عن القول أن بغداد قابلت تلك الزيارة باعتراض صارخ حتى أنها شكلت لجنة برلمانية لإدانة ذلك التحرك التركي. واستجابت تلك اللجنة بتوصيتها فرض قيود على الأنشطة التجارية التركية في العراق. وفي أيلول/سبتمبر، هددت بغداد بحجب تركيا عن جميع الفرص الاقتصادية الواعدة في البلاد عبر تعليق إصدار تراخيص عمل لشركات تركية.
وقد كانت هذه الصدعات جلية أيضاً في طريقة تعامل تركيا والعراق مع الأزمة السورية. فقد راقبت أنقرة أكراد سوريا بتوجس حيث أصبحوا أكثر نشاطاً من الناحية السياسية الأمر الذي يثير احتمال تشكيل جبهة جديدة لـ “حزب العمال الكردستاني” – وهو تخوف حقيقي نظراً لأن سوريا هي الدولة الإقليمية الأخرى الوحيدة التي جند فيها “حزب العمال الكردستاني” أعداداً غفيرة من الأكراد. وقد استغل بارزاني التخوف التركي لتقوية موقفه كقوة مهيمنة. فعمل في تموز/يوليو على جلب الفصائل الكردية السورية الرئيسية معاً في أربيل حيث قاموا بصياغة اتفاقية يتخلى بموجبها “حزب الاتحاد الديمقراطي” عن دعمه المسبق لـ “حزب العمال الكردستاني”. ومنذ ذلك الحين ادعى بارزاني بأنه يعمل على تدريب المقاتلين الأكراد السوريين من أجل الهدف الظاهري المتمثل بالحفاظ على الاستقرار في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد.
وأظهرت هذه التحركات نفوذ بارزاني بين الأكراد. وسابقاً كان “حزب الاتحاد الديمقراطي” قد رفض الانضمام إلى الانتفاضة السورية أو المعارضة الكردية الأوسع نطاقاً في البلاد التي نظمها “المجلس الوطني الكردستاني”، إلا أن اتفاقية تموز/يوليو قد وحدت سوية “المجلس الوطني الكردستاني” و”حزب الاتحاد الديمقراطي”. وبناءاً على طلب بارزاني، تشير التقارير إلى تعهد “حزب الاتحاد الديمقراطي” بوقف القتال مع تركيا والتركيز بدلاً من ذلك على النضال من أجل إسقاط نظام الأسد.
ومن وجهة نظر تركيا إن هذه التطورات تجعل من بارزاني حليفاً رئيسياً في تشكيل المعارضة الكردية السورية. والمهم لأنقرة بوجه خاص أنه وضع نفسه كثقل موازن لمنع “حزب العمال الكردستاني” من إقامة جذور له في سوريا ما بعد الأسد. وفي المقابل، اتُهمت بغداد بالانحياز إلى جانب نظام الأسد وإيران خلال هذه الأزمة. والأمر الكاشف في هذا الصدد هو أن بارزاني وليس المالكي هو المحاور العراقي الرئيسي لتركيا طوال فترة الانتفاضة السورية.
4. مستقبل العلاقات بين تركيا وحكومة إقليم كردستان
يُعد توسيع نطاق تعاطي أنقرة مع “حكومة إقليم كردستان” مناورة مهمة من الناحية الاستراتيجية، من شأنها أن تعزّز قيام تحالف جديد في المنطقة خاصة إذا واصل بارزاني توجيه الأكراد السوريين تجاه محور تركيا-“حكومة إقليم كردستان”. بيد أنه لا تخلو العلاقات من عقبات.
أولاً، لا تزال هناك بعض الريبة التي تنتاب أنقرة من كردستان العراق، كما لا يتفق الطرفان حول كل قضية. وعلى أي حال لا يمكن حتى للتحولات الإقليمية الأكثر عمقاً أن تغير من الحقيقة بأن معسكرات “حزب العمال الكردستاني” لا تزال تعمل في إقليم “حكومة إقليم كردستان”. ومن جانبها يبدو أن “حكومة إقليم كردستان” تشعر بالحساسية من تعزيز العلاقات مع تركيا خوفاً من استفزاز جارتها إيران التي لها ثقلها في المنطقة.
كما أن هناك عقبة محتملة أخرى تتمثل في رغبة “حكومة إقليم كردستان” في قيام أنقرة بإطلاق حوار مع “حزب العمال الكردستاني” مما يعد أمراً بالغ الصعوبة في ظل المشهد السياسي التركي الحالي. والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء التركي أردوغان يضع خطة لخوض أول انتخابات رئاسية مباشرة في البلاد، المقرر إجراؤها عام 2014. ونظراً لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا – التي جرت عام 2011 وفاز فيها “حزب العدالة والتنمية” بنسبة 49.5٪ فقط من الأصوات – فإنه من المرجح أن يشعر أردوغان بأن عليه تنقيح وثائق تفويضه القومية من أجل حشد مزيد من الدعم. وهذه الحقيقة، إلى جانب الارتفاع الهائل في أعمال العنف التي يقوم بها “حزب العمال الكردستاني” تجعل الحوار التركي مع هذا “الحزب” شبه مستحيل.
ومع ذلك، فقد بدأ قادة من كلا الطرفين يفضلون قيام علاقات أوثق بين الجانبين. وبصورة غير علنية يرى المسؤولون الأتراك بأنه في حالة انجراف بغداد بعيداً عن المصالح التركية، فقد تقرر أنقرة “أخذ كردستان تحت جناحيها.” وتوافق “حكومة إقليم كردستان” على ذلك – حيث تردد أن بارزاني نفسه قد اقترح هذا النوع من العلاقة المتبناة [من قبل تركيا]. ونظراً لأن بغداد تقوم بشراء الطائرات المقاتلة الجديدة من طراز F-16 من الولايات المتحدة، فمن الممكن وضع هذا التعهد على المحك. ومن جانبه عبّر بارزاني عن مخاوفه من احتمالية استخدام بغداد لهذه الطائرات ضد “حكومة إقليم كردستان” في المستقبل. كما أن المسؤولين الأتراك والأكراد أشاروا إلى أن أنقرة ستكون مستعدة للدفاع عن “حكومة إقليم كردستان” في حال تدخل بغداد بقوة للاعتراض على الحكم الذاتي الكردي.
وبالنسبة لأنقرة، تتجه السياسة التركية منذ أمد بعيد نحو منع احتمالية منح “حكومة إقليم كردستان” مزيد من الاستقلال، وهو الموقف غير التقليدي بالمرة. بيد أنه بسبب نضج علاقتها مع “حكومة الإقليم” وظهور التصدعات العرقية المحتملة في سوريا، أصبحت المواقف التركية أكثر اتزاناً.
وعلى وجه الخصوص، تدرك أنقرة مدى اعتماد الاقتصاد المتنامي لـ “حكومة إقليم كردستان” على تركيا، وهو ما يعد دافعاً قوياً لأربيل للعمل ضمن المعايير التركية. ووفقاً لمسؤولين أكراد فإن تركيا هي الشريك التجاري الرئيسي لـ”حكومة إقليم كردستان”- حيث يبلغ حجم التجارة بينهما 7.7 مليار دولار، كما أن 80 في المائة من واردات السلع الاستهلاكية الكردية تأتي من تركيا. وتنعكس هذه الأرقام في كل مكان توجد فيه سلع ومحلات تجارية تركية في أربيل، حيث يتردد بأنه يتم التكلم باللغة التركية على نطاق واسع في دوائر الأعمال التجارية ومحلات البيع بالتجزئة. وقد أخذت العلاقات الاقتصادية تتطور بشكل كبير منذ 2010 حينما كانت تعمل حوالي 730 شركة تركية في شمال العراق. وبحلول نيسان/أبريل 2012، أعلن وزير التجارة في “حكومة إقليم كردستان” سنان جلبي بأن عدد هذه الشركات قد وصل إلى 1023 شركة، وهو يفوق عن أي بلد آخر. وقد عززت “حكومة إقليم كردستان” من نشاط هذا الزخم الاقتصادي بتقديمها حوافز ضريبية سخية لشركات تركية، تصل في بعض الأحيان إلى الإعفاء الضريبي للسنوات الخمس الأولى من أعمالها التجارية. وبالإضافة إلى ذلك، وافقت أنقرة وأربيل مؤخراً على فتح معبرين إضافيين على الحدود لتخفيف عبور الناس وتدفق المنتجات بين الجانبين.
وبالنسبة لـ”حكومة إقليم كردستان”، يعد المنطق الاقتصادي وحده كافياً لتبرير هذه السياسة. وعلى أية حال، فمن نواحٍ عديدة تعتبر تركيا خياراً أفضل من بغداد كبوابة للاقتصاد العالمي. وفي الوقت نفسه، تؤكد هذه العلاقة التجارية أن الاستقرار الاقتصادي في كردستان والنجاح السياسي المترتب عنه يتوقفان إلى حد كبير على حسن نية السلطات التركية. وفي ضوء هذه الحقيقة والتهديد المتصور التي تشعر به “حكومة إقليم كردستان” من بغداد، بوسعنا أن نقول أنه من خلال تعاون الأكراد العراقيين مع تركيا سيحصلون على حوافز أكثر من أي وقت مضى.
ومن وجهة نظر تركيا إن فوائد العلاقة القوية مع “حكومة إقليم كردستان” هي في تزايد أيضاً. وكما موضح سابقاً، تمتعت تركيا بعلاقات مستقرة مع سوريا وإيران قبل ثورات “الربيع العربي” ولكن سرعان ما تحولت علاقات الجوار تلك إلى خصومة عقب اندلاع تلك الانتفاضات. والنتيجة المباشرة لهذا التحول هو أن أنقرة تواجه الآن احتمال قيام العديد من الدول المجاورة – ولا سيما سوريا – برعاية “حزب العمال الكردستاني”. كما أن التحالف مع “حكومة إقليم كردستان” يمنح تركيا وسيلة من شأنها أن تمنع ظهور كيان كردي معادي آخر في دولة مجاورة.
ومن ثم، فعلى المدى الطويل قد تعتمد العلاقات بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان” على الانحياز السياسي لأكراد سوريا في مرحلة ما بعد الأسد. ويلوح في الأفق على رادار تركيا احتمال ظهور كردستان سوريّة – مدعومة بتهديد من قبل “حزب العمال الكردستاني”/”حزب الاتحاد الديمقراطي”. وتدرك دمشق ذلك الخوف الأمر الذي يعطي “حزب العمال الكردستاني” مجالاً واسعاً للعمل داخل سوريا. وبقيامه بذلك، يبعث النظام السوري رسالة إلى أنقرة: “ساندي المعارضة، وربما تساندين أيضاً «حزب العمال الكردستاني» على بناء كردستان ثانية في فنائك الخلفي” ومن خلال العمل على التصدي لهذه العواقب، يمكن أن تصبح “حكومة إقليم كردستان” مصدر قوة لتركيا. وفي المقابل، في حال اعتزام “حزب الاتحاد الديمقراطي” الاستيلاء على أراضي سورية بعد الإطاحة بالأسد واستخدامها كقاعدة لمهاجمة تركيا، فقد يثير ذلك نشوب عمليات انتقامية من قبل أنقرة من شأنها تثبيط العلاقات بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان”.
وفي الواقع، قد تؤثر قضية “حزب العمال الكردستاني” سلباً على العلاقات بغض النظر عن التطورات الجارية في سوريا. فالتصعيد الأخير في وتيرة هجمات “حزب العمال الكردستاني” قد جعل عام 2012 الأكثر دموية في تركيا منذ عام 1999 عندما ألقت أنقرة القبض على زعيم الجماعة سابقاً، عبد الله أوجلان. ونتيجة لذلك أصبح الغضب الشعبي عاملاً مقنعاً في تفكير الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة. ونظراً لتقاعس “حكومة إقليم كردستان” في التصدي لـ “حزب العمال الكردستاني”، فقد تنظر السلطات التركية إلى الأكراد العراقيين كمتواطئين في أعمال العنف التي يقوم بها هذا الحزب. ومع أن “حزب العمال الكردستاني” يتمركز داخل أراضي “حكومة إقليم كردستان”، إلا أن معقل الحزب الضيق في جبال قنديل لا يقع تحت سيطرة أربيل. ويتجاهل الكثير من الأتراك هذه التفاصيل بسبب مواقفهم الراسخة تجاه كردستان العراق.
ويقيناً، لا يعد استبدال بغداد بـ”حكومة إقليم كردستان” ترتيباً مثالياً بالنسبة لتركيا. ففي ظروف طبيعية، ستفضل أنقرة قيام علاقات قوية مع الحكومة العراقية. وبادئ ذي بدء، إن علاقات تركيا الاقتصادية مع بغداد أهم بكثير من أن تتعرض للخطر ببساطة. فهناك عدد كبير من الشركات والاستثمارات التركية التي تزاول أعمالها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية. وبالإضافة إلى ذلك يوفر الاقتصاد العراقي مزيجاً واعداً من إمكانات الحجم والنمو لا مثيل لها في الدول المجاورة الأخرى في الشرق الأوسط. ويقدر “صندوق النقد الدولي” أن الاقتصاد العراقي سينمو بمعدل 9 في المائة سنوياً بحلول عام 2017، كما أن المشاركة النشطة من جانب مجتمع الأعمال التركي بعد “حرب العراق” جعل الاقتصاد التركي في موضع يؤهله تحقيق مكاسب هائلة من هذا الاتجاه. وعلى الرغم من أن بعض الشركات التركية قد تدعو حالياً إلى اتباع سياسة الباب المفتوح مع “حكومة اقليم كردستان”، إلا أن أنقرة سوف لا ترغب في المخاطرة بعدم تأمين الحصول على فرص اقتصادية أوسع في العراق على المدى الطويل.
وفي الوقت نفسه، يُعزى تدهور علاقات تركيا مع بغداد – على الأقل جزئياً – إلى العداء القائم بين أردوغان ونوري المالكي. وبالتالي، في حال خسارة المالكي في الانتخابات المقبلة (المقرر إجراؤها في عام 2015)، فمن المرجح أن يكون لذلك أثر إيجابي على العلاقات التركية العراقية.
وعلى الرغم من هذا الغموض السائد، لا تزال أنقرة تعتقد بأن مصالحها الأساسية تُخدم بشكل أفضل في ظل وجود عراق موحد. وقد اضطرت تركيا إلى تعزيز بدائل لبغداد من جراء “الربيع العربي”، إلا أن سياستها الأساسية لا تزال تقدر وجود سلطة عراقية مستقرة وقوية. فلا الحقد الشخصي بين أردوغان والمالكي ولا خوف أنقرة من هيمنة الشيعة في بغداد قد غيّرا من هذا الاعتقاد الأساسي. بيد، طالما ظلت “حكومة إقليم كردستان” وبغداد على خلاف حول مستقبل العراق وطالما كان هناك تهديد بقيام كيان يكون تحت إدارة “حزب العمال الكردستاني” في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، فسوف تواصل تركيا سعيها لإقامة علاقات وثيقة مع “حكومة إقليم كردستان” وبارزاني. فالتفاعل المعقد بين هذه القوى سوف يحدد سياق سياسات أنقرة في العراق لبعض الوقت في المستقبل، ويحتمل أن ينذر بحدوث تحولات جوهرية في العلاقات التركية العراقية.
5. زاوية النفط
في 21 آب/أغسطس 2012، زادت شركة “جينيل” التركية الخاصة حصتها في حقول نفط وغاز “حكومة إقليم كردستان”، معلنة عن خططها لتصبح أكبر شركة للطاقة في كردستان العراق. وتُعد تلك العملية التجارية، التي واجهت اعتراضات من قبل بغداد، أكبر دليل على حدوث تحوّل في علاقات تركيا مع “حكومة إقليم كردستان” والحكومة المركزية في بغداد. فقبل بضع سنوات فقط، رفضت أنقرة العمل مع أكراد العراق ودعمت السلطة في بغداد كمبدأ راسخ. واليوم، العكس من ذلك هو الصحيح: فأنقرة تتعامل مباشرة مع أربيل وغالباً ما تفضلها على حساب بغداد.
وتعتبر ثروة العراق الهائلة من الطاقة جزءاً رئيسياً من هذه التحالفات المتغيرة. وقد ظلت أنقرة لفترة طويلة تعتبر العراق شريكاً في مجال الطاقة – فخلال الثمانينيات كان يمر ما يصل إلى 1.6 مليون برميل من النفط يومياً عبر “خط أنابيب العراق – تركيا” الممتد بين كركوك وميناء جيهان التركي. ومع ذلك توقفت تلك التجارة في ظل العقوبات الناجمة عن “حرب الخليج” عام 1991، ولم تَعُد فعلياً إلا في السنوات القليلة الماضية. واليوم أصبح “خط أنابيب العراق – تركيا” في حاجة ماسة إلى الإصلاح، حيث أنخفضت كثيراً قدرته القصوى ووصلت إلى (700,000 برميل/اليوم)، كما انخفض كثيراً التدفق اليومي الفعلي عبر تركيا ووصل إلى (400,000 برميل/اليوم أو أقل).
بيد أنه على الرغم من تعهدات رئيس الوزراء المالكي بإرسال 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى شبكة النقل التركية، إلا أن العراق أشار بشدة إلى أن الإنتاج المحلي من الكهرباء – وليس التصدير إلى أوروبا – له الأولوية في احتياطياته الهائلة من الغاز. وقد أظهرت الحكومة العراقية أيضاً تحمساً لجهود تصدير الغاز غرباً إلى الأردن وجنوباً إلى الكويت. وإذا وُضعت الاعتبارات الاقتصادية جانباً، فإن المشاكل السياسية مع أنقرة قد تدفع بغداد الى مواصلة مغازلة هذه الخيارات.
وحتى عندما ضعفت تجارة النفط والغاز مع بغداد، أطلقت “حكومة إقليم كردستان” برنامجها الخاص للتنقيب عن الهيدروكربونات عن طريق شركات النفط العالمية الكبرى عارضة عليها اتفاقيات تقاسم إنتاج مربحة ومشاركة في حقوق الملكية – التي تتحاشاها الحكومات المركزية الأكثر قومية. وكانت النتيجة توجه عدد كبير من الشركات للتنقيب في منطقة “حكومة إقليم كردستان”، مما أسفر عن ارتفاع إنتاج النفط الخام إلى ما يقرب من 200,000 برميل/ اليوم. وعلاوة على ذلك، تشير تقديرات أولية إلى أن احتياطيات النفط في المنطقة تقدر بأكثر من 40 مليار برميل (25 في المائة من الإنتاج في جنوب العراق، وحوالي 15 في المائة من انتاج المملكة العربية السعودية)، مع احتياطي إضافي محتمل لم يتم الكشف عنه حتى الآن. كما تم أيضاً اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز.
ولأسباب دستورية وجيوستراتيجية، أعلنت بغداد بأن عقود العمل في شمال العراق غير مشروعة وهددت باتخاذ إجراءات ضد شركات النفط العالمية المشاركة، بما في ذلك “إكسون موبيل” و”شيفرون” و”توتال” و”غازبروم”. ويتطلب الدستور العراقي إقرار قوانين جديدة تنظم عائدات النفط والهيدروكربونات بشكل عام، ويمكن لهذه التشريعات تخفيف الخلافات بين بغداد وأربيل. ومع ذلك، لم يتوصل الجانبان حتى الآن إلى اتفاق نهائي حول التفاصيل.
في عام 2011، وافقت بغداد تحت ضغط من “صندوق النقد الدولي” على تصدير ما بين 100,000 و 175,000 برميل يومياً من نفط “حكومة إقليم كردستان” في “خط أنابيب العراق – تركيا”، ولكن ذلك كان أكثر قليلاً من بديل مؤقت – فالأطراف لا تزال على خلاف حول كيفية تعويض الأكراد (وبالتالي شركات النفط العالمية) عن تكاليف إنتاجهم. .وقد تمت تسوية جزء من النزاع المستمر بشأن الدفع – الذي أعاق اتفاقيات التسليم لعدة أشهر – في أعقاب مبادرات واشنطن غير الظاهرة؛ وبدأ النفط يتدفق من شمال العراق إلى بغداد، بموجب اتفاقيات تسليم مقررة تصل إلى 200,000 برميل يومياً بحلول نهاية 2012. بيد قد لا تتحمل هذه الترتيبات الظروف السياسية الصعبة التي لا تزال سائدة.
وبناءاً على ذلك تنظر “حكومة إقليم كردستان” إلى تركيا كبديل لبغداد حول صادراتها من الطاقة. أما الحكومة المركزية فلا تعتبر ذلك إهانة لسيادتها فحسب، بل أيضاً نذير محتمل لاستقلال الأكراد. إن وجود قاعدة إيرادات مستقلة من صادرات الطاقة – إلى جانب تمركز قوات بيشمركة كبيرة في مناطق “حكومة إقليم كردستان” والأراضي المجاورة – سيوفر المقومات النهائية للاستقلال، أو على الأقل استقلال ذاتي أكثر شمولية.
وتؤكد أنقرة أنه ليس لديها أي نية لدعم هذه التطلعات، ولكن الشركات التركية نجحت بفاعلية في الحصول على عقود نفط في منطقة “حكومة إقليم كردستان”. ففي أيار/مايو 2012، ظهر وزير الطاقة تانر يلدز في المحافل العامة مع نظيره في “حكومة إقليم كردستان” عندما وضع هذا الأخير خططاً طموحة لإنشاء خط أنابيب إلى تركيا. وعلى الرغم من أن يلدز لم يؤيد تلك الخطط، فإن مجرد مشاركته أفصحت بجلاء عن مدى العلاقة وحجم الإمدادات. وفي غضون ذلك، تهدد بغداد بقطع الدعم السخي للنفط الذي يبقي “حكومة إقليم كردستان” واقفة على قدميها مالياً.
وبغض النظر عن كيفية تسوية هذه النزاعات المعينة، تستحوذ تركيا بشكلٍ واضح على النصيب الأكبر من النفط والغاز في منطقة “حكومة إقليم كردستان”. وطالما ظل الأساس السياسي للعلاقات القائمة بين تركيا و”حكومة الإقليم” صلباً، فإن أي محاولة من قبل بغداد لكبح جماح طموحات أربيل في مجال النفط ستصطدم بجدار المقاومة التركية.
6. دور الولايات المتحدة
بسبب قلق الولايات المتحدة من تآكل سلطة بغداد وعدم فرض سيطرتها على جميع أنحاء العراق، فقد حاولت واشنطن بهدوء وضع عقبات أمام تقارب كردستان مع تركيا. ففي أيار/مايو 2012 على سبيل المثال، انتبهت واشنطن عندما بدا أن أنقرة وأربيل تقفان الواحدة إلى جنب الأخرى عندما أعلنت “حكومة إقليم كردستان” عن خطة طموحة [لاستغلال اصول] النفط والغاز. وعندما ظهرت احتمالية وقوع مواجهة عسكرية بين بغداد و”حكومة إقليم كردستان” في تموز/يوليو، سعت واشنطن إلى تهدئة ما كانت تخشى أن يصبح نقطة التقاء كارثية بين قوات الطرفين من شأنها أن تمزق العراق.
ولكن علاقة أنقرة مع الأكراد العراقيين لا تحتاج أن ينظر إليها بمثل هذه النظرة المتشائمة. وعلى الرغم من أن العلاقات بين تركيا و”حكومة إقليم كردستان” قد وصلت إلى مستوى كان لا يمكن تصوره قبل سنوات قليلة، إلا أنه يبدو أن العلاقة تحتوي على توازنات متأصلة. إن العلاقة بين تركيا و “حكومة إقليم كردستان”هي بالفعل في طريقها نحو نقطة التشبع إلا إذا تمزقت العراق واستجابت تركيا بتشكيلها تحالف مع “حكومة إقليم كردستان” ضد بغداد. وبعبارة أخرى هي علاقة قوية، ولكنها من المرجح أن تبقى أيضاً عند المستوى التي هي عليه إذا ما استُثني نشوب صراع مفتوح بين بغداد وأربيل.
سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن. تايلر ايفانز هو باحث شاب في زمالة “شوسترمان” في برنامج الأبحاث التركية في المعهد.