نبهنا فداء عيتاني الى ان العمل الصحافي ينتمي الى مهنة المتاعب. لكن تلك المتاعب التي تنتسب الى اصول المهنة وتحدي الالتزام الاخلاقي الذي تفرضه على صاحبها. وفداء، الذي حمل اثقال المهنة، في رحلاته السورية منذ مطالع هذا العام، كشف لنا في مقالاته المتتابعة واطلالاته التلفزيونية عن الحياة التي تسري بين ركام القرى والأبنية، وجعلنا نلمس تدفق الدم النازف من جسد الناس الذين يقاومون الاستبداد ونتيقن ايضا من دفق الحياة في روح الناس، كان فداء يغامر بجسده لالتقاط الحقيقة التي طالما راودها وراودته. لم يكن الموت بعيدا. فأطنان القذائف المتساقطة ليست مجرد مشهد تلفزيوني ينغرس في عينيه ويهز وجدانه. بل موت يلاحقه ويتربص به اسوة بالناس الذين لم يغادروا وبحثوا عن فسحة للتنفس بين قذيفة واخرى، بين مجزرة ومجزرة.
وكأنني بفداء، وهو يصر على البقاء في قلب الثورة وزمانها رغم القتل الذي يلامس الابادة، أشدّ تمسكا بالخوض على جبهات الخطر، واكثر انتماءاً الى هذا الشعب المكابد. كأني به اراد ان يكون الشاهد على كدح الناس من اجل الحرية، تلك التي يعرف فداء انها ليست هدية تعطى أو منحة توهب أو شهوة يوم عابر. لذا نقل فداء إلينا نبض الحياة وصاعقة الموت واحاسيس الناس. نقل صوت الرصاص وضجر الحرب وأنين الضحايا وفوضى الثورة وألقها. قرأنا في نصوصه المنتشرة في الفضاء الالكتروني تفكيكا لحقائق بدت لكثيرين عصية على الفهم. ففداء يعرف انه صحافيّ يخط في ارضٍ بكر، وفي مجتمع فعل به الاستبداد فعلته الشنيعة. فالخوف المتراكم والمتمادي شوّه الحقيقة، وانتج تشوهات في التعبير وفي القول حدّ الانفصام حدّ احتجازه هو نفسه.
يعرف فداء اكثر منّا، نحن زملاؤه، أن النظام السوري لم يتقن، في مقارعة شعبه، غير لغة القتل والترهيب، وفن ترسيخ الخوف والرعب في نفوس المواطنين. يعلم ايضا ان الناس لم تمت وحسّ الكرامة لديها لم يتبدد، وارادة الحرية والتحرر من كل احتلالات الخوف والمصادرة، ظلت صامدة… كامنة ومتحفزة.
لم نَخََف على فداء من الثوار السوريين، فهو نصير ثورتهم: اعلن ذلك بحزم وعزم. وشد الرحال اليها من دون خوف ولا وجل. اعلن انتماءه إلى الناس وإلى حق لا يجادل فيه عاقل. خوفنا ولم يزل كان من تلك الفئة التي لا تكف عن حصد الارواح ببراميل الموت. فحين شد الرحال الى حيث خاف الكثيرون وتهيبوا، كان القلق من مجرد تفكيره في الانتقال الى حيث يتلذذ القاتل بممارسة مهنته المشتهاة. لكن فداء وقع حيث لم نحتسب: في قبضة من يحسبون في جبهة الثورة، ضمن الفئة التي يفترض ان فداء الصحافي ينقل عنها ولها ومنها الحقائق التي طالما عمد النظام السوري الى التعتيم عليها. حيث، وهو يخط حكايا سورية في كتاباته، يخط مستقبل سورية التي ظلت لسنين مخزن حكايا مخبأة في قلوب ابنائها، او مهربة بموّال واغنية الى خارج الحدود، او حكايا مسرّبة في بطون قصائد مرمّزة وروايات تغرف من جوف مجتمع يعاند الموت.
في نقابة الصحافة أمس جمعنا فداء اهلا وزملاء واصدقاء ومتضامنين. راية الحرية للشعب السوري كانت ترفرف فوقنا. لم تهتز قاعدتها، ولم تكن ألسنة الحاضرين تهدج بغير الحرية. كأنّه كان في عقل وقلب الكل، ينبّه الجميع إلى أنّ الثورة هي الاساس وأنّ حرية الشعب السوري هي الهدف المرتجى، وإلى أنّه ايضاً، وإن كان يدفع ضريبة غير مبررة لقضيته المهنية والاخلاقية، فإنّ ذلك لن يغير في واقع الحال شيئا.
الذي يحتجز فداء، أيّا كانت هويته وشعاراته، ينتمي الى سلوك من بنات افكار الاستبداد، والالغاء، وطمس الحقائق. من صنف النظام الذي يظل فداء خصما له لا لأنه معارض سوري، بل لأنه منحاز الى الحقيقة والى العدل والى قيّم مهنية دفعته إلى أن يكون في قلب الحدث. ولأنه بالضرورة منحاز الى الناس وثورتهم ضد الظلم.
ايا كانت تمنيات فداء وقناعاته، ثمة صفعة وجهت الى الثورة السورية باحتجازه. الافراج عن فداء عيتاني هو مهمة الثورة السورية، واستمرار احتجازه اهانة يجب عدم السكوت عنها، وجريمة مدانة لأنها ضد الشعب السوري، قبل ان تكون ضد جسم اعلامي إنحاز الى الموضوعية فوقف مع الثورة السورية، وفداء نموذج ناصع لهذا الجسم.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد