فلنتكلّم عن الحقائق: فاز الأخوان بأرفع المناصب في مصر للمرّة الأولى في تاريخهم، وفي تاريخها. حدث ذلك في انتخابات ديمقراطية. هل ستكون الانتخابات ديمقراطية بعد أربع سنوات؟
كل مستقبل الديمقراطية في مصر وفي العالم العربي يعتمد على هذا السؤال. ومن قبيل المبالغة القول إن أحداً يملك إجابة جامعة ومانعة. فهذا سؤال مفتوح على احتمالات وتطوّرات ومفاجآت.
بيد أن الاعتراف باستحالة العثور على جواب، لا يعني عدم التفكير في سياقات معيّنة تُمكِن الباحث من طرح فرضيات وإنشاء تصوّرات من شأنها الاقتراب من احتمالات الجواب.
السياق الأوّل: فوز مرشح الأخوان بأقل من ربع أصوات الناخبين، في انتخابات قاطعتها أعداد كبيرة من المصريين تعبيراً عن رفضهم لمرشحي جولة الإعادة. وبالنظر إلى النسب التي حصل عليها مرشحون آخرون في انتخابات الجولة الأولى يتضح أن مجموع ما حصل عليه شفيق وصباحي وأبو الفتوح وموسى يتجاوز أصوات ما حصل عليه مرشح الأخوان بنسبة الثلثين على الأقل.
أهمية هذا السياق أنه يؤشر إلى موازين القوى في المجتمع المصري. والتحدي الأوّل الذي يجابه الأخوان بعد الفوز بمنصب رئاسة الجمهورية يتمثل في إقناع بقية القوى بالتعاون معهم، على أرضية قواسم مشتركة. وهذا أمر بالغ الصعوبة.
منشأ الصعوبة أن إقناع بقية القوى يعني الابتعاد عن المفاهيم الأساسية لجماعة الأخوان المسلمين إزاء الدولة والمجتمع. وغالباً ما يتناسى المحللون هذا الجانب لحظة التفكير في تلك المفاهيم باعتبارها ما يقوله عدد محدود من الناطقين باسم الجماعة في أجهزة الإعلام.
وهؤلاء مدربون على مخاطبة الرأي العام، وعلى صياغة المواقف وعلى توظيف اللغة بطريقة مُلتوية، لكن المفاهيم نفسها تتجلى بصورة مختلفة تماماً لدى القاعدة، أو النواة الصلبة للتنظيم. وهذا مصدر للتوتر الداخلي، يمكن تجنبه باسترضاء القاعدة التنظيمية والشعبية، أي عدم الامتثال لموازين القوى على الأرض، ما يعني الصدام مع أطراف اجتماعية وسياسية قوية وفاعلة، وذات قواعد شعبية حقيقية. وقد يحدث العكس أي تخييب آمال القاعدة التنظيمية والشعبية، والامتثال لموازين القوى على الأرض.
وقد يحدث أمر بين هذا وذاك، أي عدم إغضاب هؤلاء وأولئك، والتظاهر في البداية بمحاولة الامتثال لموازين القوى، وفي الوقت نفسه السعي لامتلاك واحتكار أدوات القوّة، وأسلمة (أي أَخْوَنة) الدولة والمؤسسات بالتعيينات في بيروقراطية الدولة، وسن القوانين، وكسب الولاء، وتفتيت المعارضة، وإحكام القبضة على أجهزة الأمن، وفي نهاية الأمر فرض الأمر الواقع على الجميع بمنطق القوّة.
كل هذه التصوّرات هي الخلفية المناسبة والضرورية لتحليل كل كلام أخواني محتمل عن المشروع الاقتصادي والمؤسساتي والسياسي في الفترة القادمة.
السياق الثاني: امتلاك أدوات القوّة. أدوات القوّة في الدول هي الجيش، وأجهزة الأمن، والشرطة، وبيروقراطية الدولة. مَنْ يملك أدوات القوّة يمكن أن يفعل بالدولة والمجتمع ما يشاء. في النظام الديمقراطي تتوزّع أدوات القوة بطريقة لا تمكن أحداً من الاستفراد بها، وفي الأنظمة الدكتاتورية تتمركز في يد شخص أو جماعة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بمصر، نتكلّم عن حقيقتين، الأولى: انحاز الجيش إلى الثورة، وقدّم الحماية للمتظاهرين الذين أطاحوا بمبارك، وجرت في ظل سلطته انتخابات نيابية ورئاسية على أسس ديمقراطية، وجرت في ظل السلطة نفسها محاكمة الرئيس المخلوع. ثمة الكثير من التأويلات، في هذا الشأن، ولكن العبرة دائماً بالنتائج. والثانية: أن الجيش حريص على دوره كصمام أمان، وقد تجلى هذا الحرص في سلسلة من القوانين من شأنها الحد من سلطات رئيس الجمهورية في مجالات كثيرة.
يعيد هذا السياق التذكير بسمة من سمات النموذج التركي: عمل الجيش في تركيا منذ صعود الإسلاميين كصمام أمان لحماية الدولة. وقد برهن الإسلاميون الأتراك خلال فترة اختبار أصبحت الآن تعد بالسنوات على إدراكهم لحدود اللعبة، ومدى الالتزام بقوانينها، ناهيك عن حقيقة نجاحهم في مشروع الإنعاش الاقتصادي.
لم ينجح الأخوان في شيء بعد. بل والصحيح أن تجربتهم السياسية منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة تنم عن إشارات مُقلقة. لهذا السبب يحظى ميل الجيش المصري للحفاظ على دوره بتأييد أعداد كبيرة من المصريين. وهؤلاء ليسوا، بالضرورة، ممن تُطلق عليهم في مصر تسمية الفلول، أي أتباع النظام السابق، بل من المواطنين العاديين من مختلف الطبقات الاجتماعية.
وفي هذا الصدد ليس من السابق لأوانه القول إن إدراك حدود اللعبة، والالتزام بقوانينها، هما عنوان المرحلة التي بدأت في مصر منذ عصر يوم الأحد الماضي. وهما، أيضاً، المدخل الصحيح لبقاء الحقل السياسي المصري مفتوحاً، والحيلولة دون احتكاره من جانب هذا الطرف أو ذاك.
ثمة، بطبيعة الحال، مداخل مختلفة للكلام عما يحدث في مصر الآن، ولكن أغلبها يندرج في إطار السياقين السابقين، وما يتجلى فيهما من تداعيات وملابسات سيحكم على مستقبل الديمقراطية في مصر، وعلى نجاحنا في العثور على إجابة صحيحة محتملة لسؤال: هل ستكون الانتخابات ديمقراطية بعد أربع سنوات؟
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني