“الشفاف”- بيروت
أواخر الأسبوع الماضي نشر أصدقاء للشهيد جورج حاوي لافتات في عدد من المناطق اللبنانية في الذكرى السابعة لاستشهاده، فابن انتفاضة الاستقلال ومؤسس مقاومة الاحتلال هو جزء من وعي وذاكرة اللبنانيين، ولكن لم تمر ثمان واربعين ساعة على تعليق هذه اللافتات التي تحمل بعضاً من أقواله، حتى قامت حملة منظمة (عمل سري) في ساعات الليل بتمزيق هذه اللافتات وإزالتها من شوارع المدن والبلدات التي عرفت تاريخاً كبيراً من نضال ”أبو أنيس“، ”حملة“ ليلية تعمدت محو أي أثر يعيد للناس بعضاً من ذاكرتهم التي اغتالها حقد النظام السوري في شوارع بيروت قبل سبعة أعوام، كأنما القاتل يقول إنه موجود هنا ويرفض للبنانيين أن يتذكروا أبطالاً من تاريخهم.
قصة الاعتداء أو ”الجريمة“ على اللافتات مرّت مرور الكرام مع أن التاريخ حين يعيد نفسه يصنع ولو قليلاً من الاهتزاز في دائرة الناس المتأثرين بالحدث، تحركت ”جمعية أصدقاء الشهيد جورج حاوي“ وحاولت ابراز ما حصل في الإعلام وأعادت تعليق لافتات جديدة، ولكن وبما أن البلد غارق مع ”حكومة النأي بالنفس“ فقد ”اغتيل“ جورج حاوي مرة ثانية، كما ”اغتيل“ رفيق الحريري ثانية مع انقلابات السابع من أيار و”القمصان السود“، ذهبت الحكومة في تدمير البلد وفي إغراقه معها في العتمة والتجهيل والتفقير وغابت قصة هذا الاعتداء فعلياً عن الواجهة، ليسرح القاتل مجدداً، ويتمجد في أفعاله كأنه يقتل جورج حاوي من جديد ومعه كل رفاقه في انتفاضة الاستقلال.
لنسمي القاتل الذي زرع العبوة في سيارة جورج حاوي بـ”خفاش الليل“، والمجموعة ”المنظمة“ التي أزالت اللافتات خلال ساعات قليلة من كل مناطق المتن وبيروت بـ ”خفافيش الليل“، ولنسمي لبنان ”البقعة“ الأخيرة التي يسيطر عليها الرئيس السوري بشار الأسد بالكامل بعد ثورة الشعب السوري من أجل تحقيق حريته، إذاً نحن في لبنان إضافة إلى الانهيار الذي سببته حكومة ”الانقلاب“ نعيش تحت قبضة القاتل الذي يتحرك ويقتل ويمشي علناً في الطرق ويزيل اللافتات من عدد كبير من المناطق وفي نفس الوقت بطريقة منظمة جداً من دون أن يجد من يردعه عن جريمته، إضافة إلى أنه قادر على أعمال كثيرة ومنها خطف الناشطين السوريين وبعض اللبنانيين عبر ”مجموعاته“ أو عبر ”القنوات“ التابعة لحكومة ”النأي“ ويقوم بتسلمهم في مناطق حدودية حيث تختفي آثارهم من الوجود.
ولكن هل يسمح هذا الانهيار لرفاق جورج في قوى 14 آذار بالصمت أمام ”الاغتيال“ الجديد، كما الصمت العالمي أمام المجزرة التي تحدث يومياً في سوريا؟ وهل جمهور 14 آذار مدرك لحجم هذا الاختراق الغير موضوعي الذي يصنعه النظام السوري في حياتنا اليومية، وهل يمكن لمن يعتبرون جورج حاوي ممثلاً لقيمهم التاريخية من النضال إلى جانب الفقراء والدفاع عن لقمة عيشهم ومن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب وبيروت والجبل والبقاع والحالم بسلم أهلي رغماً عن القاتل، والمناضل في صفوف ”انتفاضة الاستقلال“، رفيق كمال جنبلاط وياسر عرفات في مواجهة الدبابات السورية وصديق حسن خالد، و”ابن“ فرج الله الحلو الذي ذوبه أسيد مخابرات عبد الحميد سراج في دمشق في خمسينات القرن الماضي، هل يمكن لهؤلاء أن يصمتوا اليوم عن الجريمة التي تستعاد بالتاريخ، ويستعيذوا بالصمت القتل لنصل بعد فترة إلى الاغتيالات مجدداً وبصمت كالصمت الذي رافق اغتيال مهدي عامل وحسين مروة وخليل نعوس وصولاً إلى اغتيال الرئيس رينيه معوض والشاب القواتي رمزي عيراني وغيرهم ممن رفضوا ”الوصاية“ وأهلها.
في العام 2005 وبعد اغتيال سمير قصير بساعات، وقف جورج حاوي أمام منزل قصير يتهم النظام السوري بالقتل، ويشير إلى خطأ جمهور 14 آذار في عدم اسقاط الممدد له قسريا اميل لحود، فجورج كان يعرف بحكم خبرته السياسية والحزبية أنه لا ثورة ناقصة، وأنه لا انتفاضة من دون استكمال القضاء على ”العسس والمخابرات التابعة لنظام الأسد وكلاب الحراسة الليلية“، وهو كان يعرف أن الربيع حينما يمر يغيّر كل شيء من دون استثناء.
خوف جورج حاوي ذلك اليوم من وقوع الانتفاضة بمأزق التردد كان نتيجة ما شهده فترتها من ضمور للموقف الحاسم في مواجهة ”السلاح“ الذي توجه الى الداخل لاحقاً بأمر من النظام السوري، هذا الخوف سبقه إليه قبل فترة من استشهاده سمير قصير حين دعا إلى ”انتفاضة في قلب الانتفاضة“، فالثورة يجب أن تستكمل بالنسبة لهم ويجب أن لا تتوقف، لأن الإصلاح وإعادة البناء يحتاج أيضاً إلى استكمال نبض الثورة وتقديم نموذجاً جديداً للحكم حراً وديموقراطياً كما نشهد في الثورات العربية التي تحاول استكمال تحولها السياسي والاجتماعي.
ولكن هل اغتيال جورج حاوي يتكرر فقط في الاعتداءات التي تحصل كل عام على ما يعيد التذكير بهذا الرجل، كما حصل منذ عامين حين تم الاعتداء على النصب التذكاري لجورج بالقرب من بيته في منطقة وطى المصيطبة؟ بالتأكيد لا، فالاغتيال يتكرر وبقوة مع موقف حكومة ”النأي“ نفسها مع ملف عملاء إسرائيل في لبنان، فإخراج العميل فايز كرم والاحتفال به وكذلك العميل زياد الحمصي والتعدي من قبل جماعته على الصحافي عفيف دياب الذي يعتبر رفيقاً لجورج حاوي في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية هو اغتيال من نوع جديد لشهيدي يسار ثورة الأرز جورج حاوي وسمير قصير.
التاريخ يعيد نفسه ونعيش المهزلة مكررة معدلة، قاتل جورج حاوي يكرر أفعاله ولا يجد من يحاسبه، وحكومة تطلق عملاء إسرائيل من السجون قبل استكمال أحكامهم القضائية في خطة هدفها تأمين موسم انتخابي ناجح لأجزاء من مكوناتها، وسلاح يسيطر على الشوارع في استعادة لمشهد الحرب الأهلية، ولوائح اغتيال تتحضر وسياسيون معارضون يبتعدون من المشهد والصورة لأن القاتل ينتظر مرورهم أمام قناصته الحديثة، فيما هناك من يعطي الغطاء للقاتل عبر تمريره ومساعدته وتلميع وجهه إضافة إلى مهاجمة المستهدف كما حصل مع محاولة اغتيال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، حين صار ”زلم“ القاتل يشككون بالمحاولة ويحركون ما أمكنهم من ملفات للتعمية على فشل واحدة من أنجح أعمالهم لو أصابت الرصاصات المستهدف بها.
في هذه المرحلة لا يحتاج جمهور 14 آذار أن يكرر مشهد انتفاضة الاستقلال بكامله ليقول إني هنا، ولكن هذه اللحظة تحتاج إلى قرار جريء شبابي وجماهيري يستعيد المبادرة ويطلق حراكاً حقيقياً لاستكمال الانتفاضة ويعيد لشهداء ثورة الأرز ومنهم جورج حاوي حقهم في استعادة ذكراهم كل عام من دون اغتيالهم مجدداً.
ذهب جورج حاوي إلى موته وهو متأكد أن الشعوب العربية لديها قدرة على التغيير، هو لم يعش حتى هذه اللحظة ليرى التحولات الكبرى في الدول العربية، ولا ليشهد التناغم الهائل الذي صنعه الشعب السوري بين حاضره اليوم وتاريخه. إنها الحرية رفيق جورج، الحرية التي تصنع شعوباً وتحررهم، الحرية التي تجعلهم يبحثون عن الأفضل لحياتهم، هذه هي الحرية التي قتلت من أجلها تبزغ من جديد في العالم العربي كما صنعت بيدك مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وساهمت في صناعة حرية العرب.
رفيق أبو أنيس، لن يقول الشعب اللبناني وداعاً لك ولرفاقك، فهو بالتأكيد وفي القريب العاجل سيستعيد الزخم الذي سلب منه يوماً ما وسيحوّل محاولات القضاء على انتصاراته إلى ثورة تسقط حكومات سوداء وتبني دولة مدنية عادلة لكل أبنائها. وغداً أقرب لناظره مما نتوقع.