“الشفاف”- خاص
الأسبوع الفائت خرجت الطائفة الشيعية بأكملها إلى الشارع على مدى يومين متتالين، ولسببين متصلين.
السبب الأول كان احتجاجاً على خطف عدد من شبانها في “حلب” أثناء عودتهم برّاً من زيارة للعتبات المقدسة في العراق وإيران. والسبب الآخر كان استعداداً لإستقبال المخطوفين على وقع وعود الإفراج التي أطلقها الساسة اللبنانيون دون استثناء. في اليوم الأول حمل خروج الطائفة طابع الغضب، الذي لا يختلف عن غضب باقي الطوائف اللبنانية تعبيرا عن نفسه: أعمال شغب، قطع طرقات، وإشعال إطارات مطاطية. في اليوم الثاني، حمل الخروج طابع الفرح، والذي تتفرد الطائفة الكريمة عن أخواتها الكريمات بالتعبير عنه وفق أساليب وطقوس خاصة.
كمراقبٍ متواضع، استرعى انتباهي واهتمامي ما رأيته و سمعته خلال هذين اليومين، وأيقنت بما لا يرقى إليه شك بعد الآن أن مرضا خبيثا انتشر في جسد الطائفة الشيعية، لا أمل في شفائها منه، أو أنها لا تريد الشفاء منه!فحسب الثقافة الطبية، أولى خطوات الشفاء تكون في الإعتراف بالمرض، والطائفة الشيعية مبتلية بنوع متقدم من المكابرة”، يزيّن لها المرض الخبيث عافية”!
في اليوم الأول، عبّر شبان الطائفة الشيعية عن غضبهم وفق العادة اللبنانية المتبعة أي بإحراق الدواليب، رغم أن الطائفة تحرص على عدم التشبه والتماثل، شكلاً وفعلاً وسلوكيات، بغيرها من الطوائف، لكنها وقعت في المحظور غصباً عنها، متخلية ليوم واحد عن محاولات التمايز المركبة، مستجيبة لردّات الفعل الإنسانية العفوية. سرعان ما انضبط السلوك العفوي بأمر من “مهندس” مظاهر الطائفة الجديدة، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فأخمدت الحرائق، وارتدّت الجموع الغاضبة إلى أوكارها.
في تفاصيل أحداث اليوم الأول، تناقلت الأوساط الشعبية الشيعية أخبارا عن هوية “حارقي الدواليب”، وأكدت المعلومات أن أيا منهم لا ينتمي إلى “حزب الله”، لأن عناصر “حزب الله” لا يعرفون العفوية كما أنهم لا يتحركون إلا بناء على أوامر القيادة، ما يحصر تهمة الشغب بجمهور “حركة أمل”، الأمر الذي يثير استياء هذا الجمهور المتهم دوما بالفوضى، والتي تعود نتائجها بالفائدة على حزب الله. الذي لَملَمها فيما بعد. رأي شبه رسمي بين هذين الرأيين برز لتبرير فعلة إحراق الدواليب، خلص إلى أنهم مجموعة من “الزعران” العاطلين عن العمل الذين يتحينون الفرص لتفجير مكبوتاتهم في مثل هذه الأوقات.
في نفي التهمة أو إلصاقها بالطرف الآخر أو التبرؤ منها أو حصرها بفئة غير منضبطة، يظهر شيء من الإستعلاء لدى الطائفة الشيعية عن أفعال و سلوكيات الآخرين، و الإصرار على إثبات اختلافها وتمايزها عن محيطها في أبسط الأمور.
في اليوم الثاني، وهو يوم التعبير عن مشاعر الفرح بانتظار عودة المختطفين التي لم تحصل بعد، نتيجة تعقيدات ملتبسة، برز ما يمكن وصفه بالتناقض السليم، الذي باتت تفتقده الطائفة في كثير من سلوكياتها وانفعالاتها، من خلال ما نقلته وسائل الإعلام المحلية على لسان الأهالي المحتفلين. كثيرون رددوا عراضات الشكر والثناء والمدائح لـ”السيد” و”الأستاذ، منهم من شكر “السيد” وحده، ومنهم من شكر “الأستاذ” وحده، ومنهم من أضاف إليهما الشيخ سعد الحريري، ومنهم من هاجمه وحده، و قلل من قيمة مساعيه وتعاطفه! هذا التناقض بسلبياته وإيجابياته كان دليلا على عافية ما، كما أنه أشار إلى وجود كتلة صامتة في الطائفة، ما زالت تنتمي للكلّ الوطني الجامع، تشعر أنها جزء مكمل له، على الأقل في الوقفات الوطنية الكبيرة.
رغم هذا لا يمكننا أن نعقد الأمل على ما رأيناه و سمعناه بهذا الخصوص لأن المسألة أشد تعقيدا من انفعال عرضي غير مؤثر. وهنا استحضر كلاما من كتاب “نهج البلاغة” للإمام علي بن أبي طالب، الذي عاش واستشهد في الكوفة، في بيئة إسلامية مكونها الأساسي مسلمون شيعة من أتباعه وأنصار أهل بيت الرسول، الذين شهدوا عملية اغتياله ولم يحركوا ساكنا، كما انقلبوا لاحقاً على ثاني ولديه الإمام الحسين، بعد أن دعوه لنصرتهم وإنقاذهم من ظلم الخليفة الأموي… ربما انطلاقا من هذه الأجواء، استخلص الإمام علي بن أبي طالب أوصاف “الناس” وطباعهم وقسمهم إلى ثلاثة أنواع… بعيدا من التسميات التي أطلقها على النوعين الأولين، وصف أول أئمة الشيعة الإثني عشرية النوع الثالث كما يلي “همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور الحق، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق”.
هذا الوصف الدقيق لفئة من الناس ينطبق بحذافيره على مشهد الطائفة المكابرة، قيادةً و قاعدة، والتي بدت بلغتها وتعبيراتها وتعليقاتها وتصريحاتها، غريبة عن كل ما حولها، نسيجاً يتوالد من بعضه منغلقاً على ذاته، منقطعاً عما حوله، يحارب طواحين الهواء بطريقة بهلوانية في ميادين وساحات معارك متخلية، بوقاً هو في الحقيقة صامت لأنه لا يتقن سوى الهتاف ولا يتناقل سوى الشعارات!
والظاهرة الأشد خطورة في مشهدية اليومين إياهما أن الطائفة الشيعية يبدو أنها وصلت إلى ما يشبه القناعة التامة بقداستها، وتمايزها عن البشر، كأنها “شعب الله المختار”! فالويل لمن يتحداها أو يقف بوجهها، هي القادرة على هز استقرار المنطقة بيد، وفرض الأمن باليد الأخرى، لمجرد نزولها إلى الشارع بضع ساعات!
الطائفة “المكابرة” تحرق الدواليب وتتّهم.. “الزعران”!
بخصوص الهَونيك شَغله المختار: حرفان من أبجديّتنا، العربية: ط، ز. مع شدّ الثاني.