انتقال مسلسل التفجير إلى مدينة صور الجنوبية له أكثر من علة ودلالة. التفجير الأخير وهو الثالث من نوعه خلال أقل من شهرين, يدل في ظاهره على ضرب الحركة السياحية ومصادرة الحريات الفردية في المدينة, لكن مضامينه تحمل الكثير من المعاني والإشارات. وترى مصادر متابعة للتفجيرات في صور أن عبوة مطعم “تيروس” لا يمكن ربطها بما تقدم. فالمطعم ليس المكان السياحي الوحيد في المدينة الذي يقدم المشروبات الروحية, كذلك الأماكن الأخرى التي استهدفتها الإنفجارات مسبقا, كما أن “تيروس” واحد من مطاعم كثيرة ما زالت تعتزم إقامة سهرة رأس السنة, رغم التهديدات الهاتفية التي تلقاها أصحابها من قبل مجهولين لإلغاء هذه الحفلات.
وترى المصادر أن توتير الوضع الأمني في صور, بهذه الطريقة هو نوع من “تضييع الطاسة” على الرأي العام المحلي والعالمي. فالمتضح حتى الآن أن المخططين إرتأوا التلطي خلف أقنعة دينية لإبعاد الشبهة عن اللاعب السياسي المهتم بتأجيج الوضع الأمني في المنطقة ,من أجل إيصال رسائل معينة إلى متلقين معينين. وقد بدأ تنفيذ مخططه “على الخفيف” من خلال الخطوة الأولى التي صارت تقليدا متبعا في مناطق الجنوب, وهي تهديد و استهداف محلات بيع المشروبات الروحية, وتدعيمها بالتهديدات الهاتفية من أجل إلغاء حفلات رأس السنة والتي تترجم أحيانا على شكل عبوات ناسفة لا توقع ضحايا,ليصل إلى غايته المبيتة التي صارت معروفة وهي إدخال المنطقة في دوامة أمنية شبيهة بما حصل ويحصل في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
لا يمكن فصل التفجيرات المركزة في صور, والمذيلة بتواقيع “أخلاقية”عن التفجيرات التي استهدفت القوة الفرنسية العاملة ضمن إطار اليونيفل، وصواريخ الكاتيوشا عابرة الحدود، كذلك عن قضية “عرسال” الشمالية، وتسلل القاعدة عبرها إلى دمشق لضرب النظام الأسدي. كما لا يمكن فصلها عن تفجير كفرسوسة، والتي قيل عنها جميعها أنها تحمل بصمات أصولية، وذلك حسب الرواية الرسمية السورية والحليف الإلهي.
أما الرواية الشعبية فهي تؤيد ارتباط التفجيرات ببعضها,لكنها تنفي مسؤولية “القاعدة” عنها، وأصابعها تشير إلى مكونات محلية, تحضر أو تخطط لفترة ما بعد الأسد.
هل يهتم “الظواهري” بشبّان صور الذين يتعاطون الكحول.. والرقص!
وتقول الرواية الشعبية إن دخول “القاعدة” المفاجئ والسريع على خط الوضع الأمني في المنطقة ,فيه ما يدعو إلى العجب, فكيف تمكنت “القاعدة”,من الوصول إلى دمشق وفنائها الأمني جنوب لبنان, والتحرك فيهما بحرية مطلقة,وزرع العبوات وإطلاق الصواريخ وتنفيذ العمليات الإرهابية,واستطاعت أن تهز في وقت قليل وخلال فترة زمنية قصيرة, نظاما أمنيا متماسكا في دمشق ,التي تعوم على بحر من الأجهزة الأمنية ,و واقعا أمنيا ممسوكا في جنوب لبنان حيث يهيمن حزب الله ويسيطر على البشر والحجر ,كذلك كيف يستطيع عناصر “القاعدة” التحرك بهذه الخفة والسهولة طولا وعرضا في هذه الجزر الأمنية,علما أن الطرفين يدعيان تفوقهما في مجال الحروب الأمنية الباردة ,ويتغنيان باختراقهما لمنظومات أجهزة الإستخبارات العالمية المعادية وفضح مخططاتها,وكيف تصبح “القاعدة” بين ليلة وضحاها حاضرة وفاعلة بهذه القوة في مناطق تحصى فيها الأنفاس حد إنقطاع النفس. كما تطرح الرواية الشعبية استفهاما آخر حول سبب اهتمام “القاعدة” بمدينة صور, وبشبانها الذين يتعاطون الكحول ويرقصون ويسهرون ليلة رأس السنة؟
لا أمن ولا أمان بدون الأسد!
إذا أعدنا النظر في طبيعة عمليات القاعدة الدموية, نجد أن تفجيرات صور مزحة أمنية أمامها, وهذا ليس تشجيعا على المزيد من الدموية,بالمقابل كان انفجار دمشق دمويا بشكل لا يوصف, استهدف مركزا أمنيا صحيح, لكنه أزهق أرواح العديد من الأبرياء ,وإن كانت القاعدة بريئة منه, لكنه مشابه لتفجيراتها من حيث دمويته,لكن مواقيت انفجارات صور تدل على حذر من يضعها من إراقة الدماء وحرصه على أن تكون إشارات مبدئية فقط,لمخطط سوف تتصاعد وتيرته لاحقا تبعا لما سوف يستجد في دمشق,كذلك تبدو تفجيرات صور هامشا جانبيا لمتن أساسي، هدفه دعم مقولة تدخل القاعدة في سياق الثورات العربية، وإبراز حقيقة تفيد أن غياب حاكم دمشق يعني فلتانا لها في هذه المنطقة التي بقيت بعيدة عن ضرباتها حتى الآن بفضل الأجهزة الأمنية الحديدية.
تكاد تكون صور هي المدينة اللبنانية الوحيدة التي يليق بها بحق نعت مدينة التنوع ,سياسيا وثقافيا وطوائفيا ,فصور ليست مدينة بقدر ما هي حالة خاصة تعرف بذاتها ,تملك قيمها الحضارية والثقافية المستقلة,التي تراكمت على مر التاريخ وصولا إلى الحاضر,فالمدينة التي عصت على الغزاة وقهرتهم لا يمكن كما يقول أهلها,أن تنقاد بسهولة,ولا يمكن لأحد أن يفرض عليها وصايته ومشيئته. ولا شك أن الوصاية المركبة في السياسة والأمن والثقافة, التي يمارسها حزب الله على مجتمع الجنوب,أتاحت له إقفال جميع أبواب القلعة على سكانها,لكنه أخفق في ضم مدينة صور إليها, فما يمليه حزب الله على مناطق النبطية وبنت جبيل ومرجعيون لا يمكن أن يتحقق في صور, خاصة حين تتمادى الوصاية لتصل إلى حدود تضييق مساحة التعبير أو تشكل استفزازا للأنا الجماعية وتصبح تهديدا للذات المشتركة، وتطلق العنان لأحداث وظائفية تسعى إلى تغييب التنوع وأسره وتقليص حجم القيم التي قامت عليها ذاكرة المدينة .
إضافة إلى ما تقدم, بما أن هدف التفجيرات هو تطهير المدينة من الفساد, فلماذا لم يتبع هذا الأسلوب في المناطق الجنوبية الأخرى؟ فبالنظر إلى الحملة التي شنها حزب الله لإقفال محلات المشروب في الجنوب, لم نلحظ سيادة للغة التفجيرات,على غرار ما يحدث في صور. طبعا لأن المناطق الآنفة الذكر ممسوكة أمنيا من قبل الحزب, وأي حدث أمني فيها يهز كيانه ويتحمل مسؤوليته المباشرة ,بينما تشذ صور عن هذه الدائرة. لذلك كان سهلا على حزب الله تأجيج المدينة كونها غير خاضعة لسيطرته الأمنية والإستعجال بإلقاء التهمة على أطراف أخرى.