تنص المادة الرابعة، الفقرة الثالثة، من الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 من المجلس الأعلى للقوات المسلحة على انه (لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو بناء على التفرقة بسبب الجنس والأصل). وهذا النص يُعد امتداداً لنص مماثل تضمنه دستور 1971.
وأساس النص الدستوري بعدم جواز إنشاء أحزاب سياسية على أساس ديني، يعود إلى ما ُلوحِظ في القرن الماضي، من أن النشاط الطبقي أو القومي أو الديني إذا ما اتصل بالسياسة أو عمل بها، فإنه ينتقل من نشاط اجتماعي إلى الأيديولوجيا الخطرة. وللأيديولوجيا معاني عدة، لكنه في هذا الصدد، يفيد معنى المعتقد الجاف المتشدد والذي يأتمر بأمر الرئيس أو الزعيم أو المرشد، فيتجه إلى إقصاء الغير، ورفض كل ما يخالفه، دون أي رأى حر أو تفكير صائب، وهو ما يكون خطراً شديداً على الجماعة أو الوطن أو الدولة التي ينشأ فيها. ففي الروسيا، وعندما اندلعت الثورة الماركسية التي كانت تهدف إلى إنصاف قوة العمل، انحدرت لتصبح دكتاتورية البروليتاريا وركنت إلى الجهاز السري القيصري، واستخدمته بصورة بشعة، فكانت أقسى وأسوء من حكم القياصرة التي ثارت عليهم. وصار الحكام فيها هم المالِكون للثروة والسلطة، فكانت أسوأ أيديولوجيا، خاصة عندما لجأ إليها حكام دول العالم الثالث، والتحفوا بما تطلقه من إدعاء الديمقراطية، فصاروا بذلك الملاك الوحيدين للثورة والسلطة. وهذا ما حدث في ألمانيا وإيطاليا، عندما قامت فيهما نزعات قومية، وانحرفت – عندما دخلت إلى حلبة السياسة – فصارت ديكتاتورية بشعة، هي النازية والفاشية، وكبّد ذلك العالم كله حرباً طاحنة، هي الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت إلى الدمار في ألمانيا وإيطاليا، وطال هذا الدمار دولاً وشعوباً كثيرة وبريئة.
النص الدستوري على عدم جواز إقامة حزب سياسي على أساس ديني، كان وما زال نتيجة لتجارب البشرية حين انتهت إلى أن مخالفة النص يؤدى إلى قيام أيديولوجيا دينية، يقودها الكهنوت، وهو ما يهدد مصر الأمة، كما أنه ينحرف بالسياسة من الحرية والتعددية والمنافسة الشريفة، إلى كل ما يخالف ذلك ويناقضه. كما أنها تستبدل بالمقرات السياسية الحزبية المساجد و”الزوايا”، وهو ما يحوّل العمل السياسي إلى إيديولوجيا دينية سلاحها التكفير والتهديد والإقصاء، وهى في ذلك تلجأ إلى المثل الميكيافيللي الذي يقرر أن (الغاية تبرر الوسيلة) فتسيء إلى الدين وتقوض دعائم الوطن وتكون تهديداً للجميع، ما لم ينضووا تحت سيطرتها.
هذا النص الواضح الصريح بعدم جواز مباشرة السياسة على أساس ديني غفل عنه الجميع في مصر وخلال المعركة الإنتخابية الحالية، فلم يُشِر إليه أحد، فكانت مؤامرة الصمت الرهيب، فمن المسئول عن ذلك ؟ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أم الحكومة بكل هيئاتها، أم الأحزاب المدنية، التي دخلت في منافسة غير شريفة ولا سياسية ولا حزبية؟
عندما قامت ثورة يناير 2011 كانت الصحف تنشر بفخر أن الثوار اتخذوا في شعاراتهم تعبير (مدنية مدنية) وهو بغير تنطّع ولا تحذلق يعني أن الثورة تهدف إلى إنشاء السلطة وقيام المجتمع على أساس مدني، لا عسكري ولا ديني. وقد كان هذا هو الميثاق الجديد الذي يقوم بين الشعب كله. ذلك أن النصوص الدينية لا تنطق بلسان – كما قال الإمام على ابن أبى طالب – وإنما يستنطقها بما يريد من يفسرها على ما يشاء وتكون له مصلحة فيه. وبهذا المفهوم لا تكون الدولة الدينية إلا دولة كهنوتية، يقول الكاهن كل رأى فيها ويُكفّر من لا يوافق على رأيه ومن لا يتابع قوله، وهو ما حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى ابن أبى طالب على نفيه، وبيان أن لا أحد يعرف حكم الله، لكن كلُّ يقول برأيه. فإن قيل عن النص الديني إنه واضح صريح، فلِمَ توزعت الأديان بين مذاهب مختلفة، وكان للنص الواحد أكثر من تفسير، قد يبلغ بعضها العشرات؟ ولِمَ يوجد في مصر، وفيما يسمى بالإسلام السياسي، أكثر من حزب يقول بعضها قولاً في كل موقف يختلف عما قالوه من قبل. فإذا كان يؤدى خدمات اجتماعية صار يستأدي مقابل الصدقة الدينية صوتاً سياسياً، والذي كان يكفر بالديمقراطية صار يدافع عنها حين مارس السياسة، والذي وقف بعيداً عن الثورة والثوار وقال إن في ذلك خروجاً على الحاكم، هو الذي يدعى الآن أنه كان قلب الثورة.
إن ما يجرى في مصر أمر خطير جداً. فنتيجة لدخول أحزاب دينية ساحة السياسة – بالمخالفة لحكم الإعلان الدستوري – أدى إلى أن لا تكون الإنتخابات سياسية بل إنها جرت على أساس الفرز الديني والتمييز الطائفي، وهو أمر ساهمت فيه الأحزاب المدنية، إذ قبلت الدخول في انتخابات غير سياسية، فأضفت عليها الشرعية، وكان من الضروري ألا تدخل في هذه الإنتخابات وأمامها النص الدستوري المشار إليه، تتحصّن به وتنبّه إليه.
الإسلام السياسي – مِن تلهّفه على الحكم – يخالف القانون والدستور حتى يصل إلى السلطة فيشرّع ويقنّن بما يريد، وهو لا يتعلم من تجاربه. فلقد أيد انقلاب يوليو 1952، وحرّض الإنقلابيين على إلغاء الأحزاب حتى يخلو له الجو، ولما اختلف مع الرئيس عبد الناصر انقلب عليهم وساءهم سوء العذاب. فكانوا بذلك السبب في الحكم الديكتاتوري مدى الستين عاماً الماضية. ويقولون اليوم بأن من الضروري أن يُعطوا الفرصة حتى يحكم الإسلام، فهل للإسلام لسان ينطق به أم أنهم سوف يقيمون طبقة من الكهنوت تتقلب في تفاسيرها وفقاً للمصلحة؟ وهل حُكمت مصر منذ الفتح الإسلامي بغير الإسلام؟ هلى عُرفت الليبرالية والعالمانية والماركسية إلا منذ قرن مضى؟ وهل مورس الحكم في مصر على أي أساس من هذه الصيغ؟ لقد كانوا عدداً كبيراً في برلمان 2005، فلماذا سكتوا عن طلب الدعوى بالحكم الإسلامي، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟
لقد أورث الإسلاميون (الإسلام السياسي) أنفسهم الإضطهاد والتعذيب، وكان الأحرار المستنيرين في كل موقع يدفعون عنهم الأذى ويبعدون عنهم الظلم. ولقد كنت رئيساً لمحكمة أمن الدولة العليا، فكان المعروف عنى أني أفرج عن المعتقلين منهم بأوامر اعتقال وفقاُ لقانون الطوارئ، حتى وإن حرصت السلطة على أن تمنع المحكمة التي كنت أرأسها من نظر تظلّماتهم بعدم إحضارهم من محابسهم، وكان المحامون يقولون بفخر إنني القاضي الذي كان يفرج عن المعتقلين وهم في السجون. وكانت السلطة تضج من ذلك لكنها لم تستطع أن تمنعني من ذلك أو يكلمني أحد فيه، حتى تحايلَت وأخذَت من محكمتي نظر الطعون في أوامر الإعتقال، فأنشأت الجمعية العامة للمحكمة دائرة أخرى يقتصر اختصاصها على نظر التظلمات من أوامر الإعتقال.
إن الإنتخابات التي حدثت وتحدث في مصر حالاً هي انتخابات باطلة، ليس لما شابها من بطلان وهو كثير جداً، لكن لأنها أغفلت نص المادة الرابعة من الإعلان الدستوري، فهي انتخابات غير شرعية، وغير دستورية.
إن كل المصريين يريدون سياسة لا تقوّض أركان الوطن وأعداؤه كثيرون. وإنما الحق كل الحق في أن تكون السياسة داعمة لمصر وشعبها بكل طوائفه، أساس حكمها سيادة القانون ومفهوم المواطنة، حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، ولا يكون ثمة تمييز ديني أو تجنيب طائفي أو استهانة بالوطن، ترقّباً لخلافة يصعب أن تكون في العصر الحالي.
* القاهرة
إقرأ أيضاً: