سبقت تونس كل العرب في الثورة، كما سبق حزبها الاسلامي «النهضة» جميع إسلامييهم الى السلطة. بالاقتراع الديموقراطي الحرّ، الذي لم يشبْه اكثر ما يشوب اعرق الديموقراطيات، وبقانون انتخابي نسبي، هدفه اضعاف الاقوياء من بين المرشحين، أي «النهضة».
بعد ديناميكية الثورة، ها هي ديناميكية الانتخابات الحرة النزيهة تتوغل بنا في عصر آخر، للاسلام السياسي فيه حصة الأسد من السلطة، وبقوة الدفع نفسها التي فتحت الطريق امام هذه الانتخابات. هكذا خرجنا من سباتنا وتكرار الاسئلة نفسها، والمعوقات نفسها والفزاعات نفسها.
لم تعد الاحزاب الدينية فزاعة. بعد تونس، سوف يكون الدور لمصر، ثم ليبيا، فاليمن وسوريا… الفزاعة صارت في السلطة، او على قاب قوسين او ادنى منها. وصارت تجد نفسها بحاجة الى تطمين الآخرين: تطمين النساء والاقليات، تطمين على الحريات وعلى الديموقراطية، وعلى الإرث العلماني (في حالة تونس وحدها).
لماذا؟ هل نحتاج الى طرح الـ»لماذا؟»؟ بعد كل الذي عددناه وفسرناه وأدنّاه…؟ نعم: نحتاج الى استعادة الاسباب العميقة والسطحية، القريبة والبعيدة… التي افضت الى بزوغ الاسلاميين… وديموقراطيا. ربما بذلك نستعيد اللوحة بمجملها، اذ يكشف الحدث عن جملة «أسباب»، لم نكن نقدر سماكتها لحظة تسلّينا الروتيني بتعدادها…
اللحظة التأسيسية للاسلامية تعود، هنا ايضا، الى ما بعد هزيمة حزيران 1967 بعام واحد: الفراغ الروحي والسياسي الذي خلفته الهزيمة، وهزائم أخرى تلت الهزيمة الكبرى، بدأت تملأه الاسلامية منذ تلك اللحظة وحتى الآن. وما أسْلمة المجتمع على يد السلطة كما على يد المعارضة الاسلامية، كلٌ لدوافعه، وعلى امتداد اربعة عقود من الزمن… هذه الاسلمة اذن ما هي الا واحدة من النتائج والاسباب لصعود الاسلامية السياسية. فانتهى بنا الامر الى ما نحن عليه الآن: المجتمع، أي غالبيته الأكثر حيوية، هو الذي يريد الاسلام، السياسي منه والطقوسي، أو الفقهي. فمن الطبيعي ان هذه الغالبية لن تقترع، اذا كانت حرة، لصالح الحزب الذي صوّره الديكتاتوريون على هيئة شيطان: من تونس الى سوريا، مرورا بمصر وليبيا واليمن، كان للاسلام السياسي هذا النصيب الأوفر من القمع والملاحقة.
ولا حاجة بعد ذلك الى شرح صعود المساجد بصفتها حرمات لا تقدر السلطة المنكِّلة على النيل منها. ناهيك عن كلمة الله ونبيه الكريم اللذين تصدّر الاسلام السياسي النطق باسمهما (يقول المقترعون المؤيدون لهم انهم يصوتون «دعما للدين والله»….). الاسلاميون فوق ذلك منظَّمون، لهم شبكاتهم وجمعياتهم وقدرات مالية ولوجستية، ولهم ايضا مثقفوهم العضويون. الاسباب الاخرى الجديدة، من تسويق الغرب لهم وقبوله للجناح «المعتدل» من بينهم، اعتقادا منهم انه بذلك يردأ عنه خطر الارهاب الاسلامي، ثم والنموذج التركي الأقل ديموقراطية بين الديموقراطيات الاطلسية، المدعوم غربيا، والاثنان يعطيان هذا الصعود دفعة مدروسة لا ريب فيها.
كل هذه الاسباب يدلو بها عادة الساخطون على الصعود الاسلامي من ليبراليين ويساريين وحداثيين الخ. يعدّدون بعضها وهم كاتمون غيظهم؛ فالانتخابات والاستطلاعات نزيهة، وهم لا يملكون غير الانحناء اما ارادة الشعب التي لطالما طالبوا بتحريرها. أو يطمئنون انفسهم ويتوسلون التفاؤل، «اسمعوا ما يقوله الغنوشي» بإعجاب مريح. أو يتذاكون برمي حجرة «التحدي»: «والآن، النهضة التونسية امام تحدي الحكم»… وبذلك يرفعون عن كاهلهم المسؤولية الأعظم. طالما ان الحكم ليس في المتناول، فالحدث يتحول الى «تحدّ»، الى خطر على النفس، هم طبعا والحمد لله، بمنأى عنه…
والحال ان واحدة من الاسباب الرئيسية التي أعلت من شأن الاسلاميين شعبيا هي حالة التيارات الاخرى المنافسة لهم، أو التي يفترض ان تنافسهم. التيارات الليبرالية الحداثية. والمهمة الملحة المطروحة على هذه التيارات الآن: المقارنة بين عهدها الذهبي، ايام الاستقلالات الاولى، والعهد الراهن، حيث حملت الافكار الحداثية بصفتها رائدة مجتمعاتها بقبول شعبي اجمالي بقي كذلك حتى سقوط حزيران 1967. الشعب نفسه الذي اغرقته الحماسة في بحر القومية والتقدم والاستنارة، هو الذي يقترع، او سوف يقترع، لتيار معاكس يجرّنا الى الوراء، أي بعكس الاتجاه السابق. ما الذي حصل في عقل هذا الشعب، في معيشته، في سعيه…. ليصبح، وبكامل ارادته، منحازا الى هذا العكس؟ يقول مفسرو الصعود الانتخابي الاسلامي ان نصف التصويت المؤيد له هو نكاية بالعلماني الذي حكم عقودا. هل كان النظام «علمانيا» فعلا؟ وبأية كيمياء عجيبة اختلطت هذه «العلمانية» بالمزايدة الاسلامية من جهة، وبطرح «الفزاعة» الاسلامية من جهة اخرى؟
الإجابة على السؤال اعلاه يتطلب وصف التغيرات التي طرأت على هذه المجتمعات طوال العقود التي تبدلت فيها توجهاتها، ووصف الديناميكيات التي انعقدت حولها، خصوصا الديناميكيات السلطوية، وكيفية تأثير هذه على الذهنية والعقلية والعلاقة بالدين وبرافعي شعار حكمه الخ.
لكن الامر لا يتوقف عند هذا الحدّ. فالعلمانيون والحداثيون يواجهون تحدّيا أعظم من تحدي استلام السلطة. اذ لا بد لهم، بعد وصفهم الجديد لمجتمعاتهم، ان يواجهوا إعادة صياغة فكرتهم او إعادة هيكلتها او نقدها، مجرّد نقدها. وعليهم ان يرتبوا ثقافتهم بناء على ما يرونه متوائما مع المصالح الشعبية او مفهوما لديها، ولو على المدى البعيد، من دون الوقوع في الشعوبية، خصوصا الانتخابية منها. عليهم التوقع بأن موقعهم في «المعارضة» قد يطول، وسوف يكونون رقباء أمناء على تطبيق الاسلاميين التزاماتهم الديموقراطية. هل المطلوب منهم ان «يبنوا» ايديولوجيا جديدة؟ أم عليهم نقد حداثتهم؟ وإعادة صياغتها ومواكبة ما بعدها؟ الامر مرهون بما يتطلعون اليه. ولكن المؤكد انهم لا يستطيعون مواصلة سخطهم على الصعود الاسلامي، أو تطمين انفسهم المتفائلة به، ويرددون تعويذة «أسباب» هذا الصعود كطقس من طقوس التكاسل الذهني. قد يتوصلون في بعض استنتاجاتهم الى انهم يحتاجون الى نقد نقدهم للاسلامية (العبارة لياسين الحاج صالح)؛ ليس للقول بأنها بدت أكثر أو أقل ديموقراطية؛ بل لأنها لا تختلف عن الايديولوجيات الاخرى عندما تواجه مسؤولياتها، فتتمرس خلف البراغماتية، وتصوغها صياغة اسلامية.
ومحور هذا التفكير سوف يكون المرأة والديموقراطية. ليس لأننا اخترناه، اذ ان الاسلاميين، بتكرارهم التطمينات، او تصحيح زلات السنتهم ومطباتهم، هم الذين اختاروه. راشد الغنوشي يردد طوال الحملة الانتخابية انه لن يمس بحقوق المرأة التونسية المكتسبة من العهد البورقيبي. ومصطفى عبد الجليل يعد رجالاته بالغاء القيود التي وضعها القذافي على تعدد الزوجات. المرأة ستكون في مرحلة السلطة الاسلامية موضوع الصراع ومحوره. لا شيء ظاهر حتى الآن الا خشية عميقة من ان تنتزع منها الحقوق القليلة التي اكتسبتها طوال العقود الاربعة السابقة. بل من الآن رفع حزب النهضة نساء الى مواقع في البرلمان، وكانت له مرشحاته المحجبات والسافرات. هذه الاجراءات «الذكية» لا يجب ان تخدعنا. انها تنتمي الى نفس مدرسة المرأة «الذريعة»، أي المرأة التي توضع في طليعة المشهد لكي يُقال «والله…. انظروا…. النساء والسياسة عندنا».
فالمؤكد ان هذا العهد الجديد، اذا لم ينتزع هذه الحقوق، فلن يضيف اليها شيئا آخر. الفرق بين الامس الديكتاتوري التسلطي، وبين الغد الاسلامي الديموقراطي، سوف يتوضح: في الاول كانت النساء عرضة لذكورية تتلطى حينا بالدين واحيانا بالدنيا. اما غدا، فلن تحتاج الذكورية الى اكثر من قول الدين لتنزل حكمها.
ليس الغرب هو الذي سينقذنا؛ هو الذي اخترع فكرة «طالبان معتدلين» و»طالبان متشددين». والمنبثقة منها فكرة «الاسلام المعتدل»، ضالته. وهو ايضا الذي كان كلما يتقرب من «المعتدلين»، يتراخى في قضايا النساء الافغانيات، اللواتي شكلن ذريعة الذرائع لغزو افغانستان…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
نوافذ المستقبل