خاص بـ”الشفاف”-
استأثرت زيارة احمد داود اوغلو وزير الخارجية التركية الى العاصمة الايرانية طهران في الثاني عشر من شهر تموز/ يوليو بالكثير من الاهتمام الاقليمي والدولي، خاصة وانها جاءت بعد زيارة قام بها اوغلو الى المملكة العربية السعودية وعشية مؤتمر المعارضة السورية في اسطنبول وقبل اجتماع مجموعة الاتصال الدولي حول ليبيا.
وتعتقد اوساط ايرانية مطلعة ان مباحثات الوزير التركي مع المسؤولين الايرانيين الذين التقاهم في زيارته تركزت على الاوضاع والتطورات الاقليمية والغموض الذي يكتنف مساراتها وعدم وجود مواقف دقيقة ومحسوبة حول مستقبل الاوضاع المتوترة وغير المستقرة في المنطقة، حيث احتل الموضوع السوري والتطورات التي يشهدها هذا البلد صدارة وصلب هذه المباحثات باعتراف وزير الخارجية الايرانية علي اكبر صالحي. الذي اصر ان يقدم اجوبة حذرة او ان يلتف او يتهرب، هو ونظيره التركي، على الاسئلة المتعلقة بالوضع السوري في المؤتمر الصحفي المشترك بينهما خوفا من ان تتسرب من بين كلماتهما أي عبارة تكشف عما دار بينهما من حوارات .
وتضيف هذه الاوساط أن اسلوب تعاطي كلا الطرفين الايراني والتركي مع حيثيات المباحثات التي جرت بينهما يعود الى احد امرين؛ الاول، للاهمية الخاصة لموضوع النقاش ، والثاني؛ يعزز الاحتمال بامكانية ان تكون المباحثات بين الطرفين قد حققت تقدما باتجاه رؤية مشتركة، لكنها لم تصل الى نتيجة ويجب عليهما متابعتها باسلوب اخر.
ما هو مؤكد ان هذه المباحثات شكلت اضافة جديدة على المواقف المتعلقة بالتطورات التي تشهدها المنطقة يمكن ان تساعد بالوصول الى فهم الاختلاف بين الموقفين الايراني والتركي حول المسائل المتعلقة بسوريا وايهما اقرب الى الصوابية، حسب هذه الاوساط .
وتصر القيادة والادارة الايرانية على وصف ما تشهده المنطقة العربية من تحركات وانتفاضات على انه “صحوة اسلامية ” انطلقت شرارتها من شمال افريقيا ثم تحولت الى عاصفة اجتاحت، على مرحليتن، منطقة الشرق الاوسط واستطاعت ان تهدم اسس أنظمة عريقة في عدد من الدول الافريقية.
المرحلة الاولى لهذه العاصفة، حسبما ترصده هذه الادارة، كانت توجيه صدمة قاسية وعميقة ومدمرة لاكثر او لكل هذه الدول الى الحد الذي ساور حكامها شعور بانهم لن يكونوا في مناصبهم مع طلوع فجر اليوم التالي وسيكون عليهم اللجوء الى مكان ما في دولة ما تكون اكثر امنا لهم، كما فعل “بن علي” الذي هرب الى السعودية في اول فرصة سنحت امامه للخروج. وقد تسارعت حدة هذه التطورات بحيث صدمت هؤلاء الحكام وكل الداعمين لهم في الغرب خصوصا اميركا واقعدتهم عن القيام باي امر او ردة فعل. وعندما قرروا التحرك لمواجهة هذه التطورات ، كانت ردة فعلهم متسرعة وغير محسوبة وكانوا مجبرين على تغييرها مرارا.
المرحلة الثانية شهدت تعديلا واضحا في مساراتها او نتائجها، لان العاصفة ضربت في دول وانظمة تعتبر اكثر غنى وقدرة على التصدي، والمعارضة فيها اقل قوة واكثر ضعفا من غيرها، مثل السعودية والكويت و… . وقد استطاعت هذه الدول باساليب مختلفة احتواء هذه الازمة، على العكس من دول اخرى كاليمن والبحرين والى حد ما الاردن التي تعتبر دولا تواجه حالة من الغموض والمصير غير الواضح .
وتعتقد هذه القيادة ان ما تشهده سوريا اليوم، يبدو في الظاهر، جغرافيا ووطنيا، يشبه الفوضى. وان تشابه الوضع السوري مع اوضاع بعض هذه البلدان التي تواجه ازمات، فان هذا لا يعني تطابقا. وبنظرة متأنية وقراءة منطقية يمكن القول ان الوضع في سوريا لا يتعدى كونه “استثناءا مشابها”.
محللو دوائر القرار لدى القيادة الايرانية حاولوا وضع تصور للتطورات التي تمر بها دول وانظمة الشرق الاوسط وتحديدا الدول العربية، وبناء على المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموجودة في هذه الدول قاموا بتوزيع الانظمة على مجموعات، اضافة الى رصد تأثير مواقف بعض هذه الدول على موقع ودور ايران في علاقتها ببعض هذه الانظمة خصوصا سوريا .
ولم تبتعد هذه التحليلات عن وصف ما تشهده الدول العربية بانه “نهضة اسلامية” متأثرة بالنموذج الايراني وثورته الاسلامية التي قامت عام 1979 من القرن الماضي وتحاول ايهام الطرف الاخر ان موقفها ينطلق من هذا البُعد. وهو منحى لا تنفك القيادة الايرانية وادارتها الدبلوماسية اللجوء اليه في توصيف اي تحرك في المنطقة واستخدامه كغطاء لتغليف طموحاتها الاقليمية ومحاولة “حفر” دور لها في قيادة العالم الاسلامي.
ولتسهيل هذه التصورات، فقد وضع الايرانيون خارطة للانظمة او الدول التي حدثت فيها تغييرات وتلك المرشحة او على لائحة الانتظار والقوى الدولية والاقليمية المتأثرة بهذه التطورات.
1- الدول او الانظمة التي حدث فيها التغيير: اي النظام التونسي بقيادة زين العابدين بن علي والنظام المصري بقيادة حسني مبارك وحاشيتهما العائلية والرسمية، هما من الانظمة المتغيرة. اما انظمة مثل الليبي بقيادة معمر القذافي والبحريني بقيادة عيسى بن حمد آل خليفة واليمني بقيادة علي عبدالله صالح والسوري بقيادة بشار الاسد وحاشيتهم العائلية والرسمية هم من الانظمة التي تعتبر في طور التغيير.
2- الانظمة المشابهة: والمقصود بذلك هو الدول التي تشترك انظمتها كثيرا مع انظمة الدول التي تعتبر في طور التغيير، مثل السعودية والكويت والامارات و… وهذه الدول من حيث البنية الحكومية والثقافية والاجتماعية تشبه الدول التي حدث فيها تغيير او تلك التي تنتظر التغيير. انطلاقا من اعتقاد القيادة الايرانية ان شرارة الاعتراض قد تشتعل في أي لحظة في هذه الدول، وعليه فان قادة هذه الدول قلقون ومضطربون كثيرا.
3- الغرب بقيادة اميركا: انطلاقا من اهمية الجغرافيا في تحديد ميزان المصالح لدى الدول الكبرى “الاستعمارية” فان هذه المنطقة التي تشهد تغييرات ناجزة او بانتظار الانجاز تحظى باهمية كبيرة من قبل هذه الدول ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وعليه يمكن القول انها متورطة بهذه التغييرات بشكل كبير.
4- تركيا: تعتقد القيادة الايرانية ان الاشتباك التركي – السوري قديم ويعود لصراعات تاريخية وصولا الى الخلافات الحدودية. لذلك فان الاعتقاد السائد ان الطرف التركي متورط في الاحداث السورية. اضافة الى ان انقرة تحاول توظيف دورها في هذه المتغيرات لتحسين موقعها التفاوضي في ما يتعلق بمحاولات انضمامها الى الاتحاد الاوروبي.
5- إيران: تعتقد طهران ان الغرب ومسؤوليه يحاولون اخفاء او استبعاد ان تكون هذه التغييرات نتيجة للبعد الاسلامي ما يمكن تسميته “الصحوة الاسلامية”، لان القبول بهذا الامر يعني الاعتراف إجباراً بالعلاقة والارتباط الكبير بين هذه التحركات ورسالة واهداف الثورة الاسلامية في ايران.
في الموضوع السوري، تعتقد القيادة الايرانية ان هذا البلد لا يختلف في وضعه عن دول المنطقة الاخرى، لكن مع بعض الخصوصية ما يمنحه وضعا يمكن وصفه بـ”الاستثنائي”. بمعنى ان سوريا تختلف عن كل الدول التي تقع في محيطها الجغرافي الذي يعيش حالة من التغيير، وذلك من حيث طبيعتها وموقعها السياسية. فسوريا وعلى العكس من كل هذه الدول، هي في الخط الأمامي للمقاومة، وبسبب صمودها في هذا الموقع، دفعت اثمانا باهضة وكانت محل غضب وانتقام اميركا والغرب والعديد من الدول العربية.
وفي تحليلات للتطورات التي شهدتها عدة دول في المنطقة، ترى القيادة الايرانية ان طبيعة هذه التحركات الاحتجاجية كانت ذات طابع محلي وداخلي واعتراضا على الظلم والحرمان وغياب الامل من الاصلاح ومن اجل التخلص من المهانة. وهي ما يمنح أي تحرك او اعتراض مشروعية شعبية وطبيعية وتقطع الطريق على أي علامة استفهام حول طبيعة هذا التحرك. اما فيما يتعلق بالموضوع السوري، فالتحرك في هذا البلد يفتقر الى هذه الأبعاد. وهذا ليس بمعنى ان كل الشعب السوري مؤيد للنظام او لا وجود لمعارضة شعبية. بل ان اطرافا اجنبية تقوم بالتدخل في الشؤون الداخلية السورية وتقوم بتنظيم عناصر محددة وتحرك اطرافا لديهم استعداد للقيام بذلك وكذلك القيام بالتخريب والقتل والفوضى من اجل ان يقولوا للرأي العام العالمي بان ما يحدث في سوريا هو شيء مشابه ومماثل لما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها.
بتعبير اخر، تعتقد هذه القيادة بان الولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية قلقتان على مستقبل المنطقة بسبب ما تعرضت له مصالحهما من خسائر كبيرة جراء النهضة الاسلامية لشعوب هذه الدول. وان هذين البلدين يستغلان عوامل مثل السلاح والخداع والبروباغندا ، الى جانب التراجع والازمات الاقتصادية التي تعاني منه هذه الدول، في محاولة لاستعادة الموقع والدور. وان موقفها العدائي من نظام بشار الاسد ما هو الى محاولة للتعويض عن الخسائر التي لحقت بهما. وتعتقد اميركا والدول الغربية والعربية ان القضاء على نظام الاسد مسائلة مهمة وثمينة يمكنها التعويض على الخسائر التي لحقت بها، لان سقوط نظام الاسد ووصول نظام حليف لاميركا والغرب والدول العربية سيساهم في تغيير معادلات المنطقة لصالحهم.
وفي عملية رصدها للموقف التركي من الازمة السورية، تعتقد القيادة الايرانية ان انقرة ومنذ بدء “المؤامرة” المعقدة ضد النظام السوري، تعامل الحكومة التركية مع الموضوع السوري باسلوب مناسب ولغة هادئة. لكن مع اشتداد عمليات التخريب والقتل، ارتفعت حدة اللهجة التركية ضد سوريا الى حد المواجهة في منحى اظهر وكأن انقرة تقف في الجبهة الاميركية. ويأتي هذا التطور في الموقف التركي في وقت كانت تصرفاتهم في التعاطي مع التطورات الاقليمية تعاني من الثنائية غير المبررة والمثيرة للتساؤل. فهي وقفت الى جانب الشعب في الاحداث المصرية والتونسية لكنها في ليبيا اعلنت دعمها الواضح للقذافي، لكنها لاحقا بدأت بارسال مؤشرات ايجابية خجولة باتجاه المعارضة الليبية.اما في اليمن وبسبب غياب دور تركي كبير لم يكن لانقرة موقف واضح، في حين انها لم تقف الى جانب الشعب البحريني.
ان سوء التصرف التركي مع النظام السوري، باعتقاد القيادة الايرانية، لا يمكن حصره فقط بالقول ان مواقف المسؤولين الاتراك كانت مجرد مواقف سلبية ضد الحكومة السورية، بل تعداها الى مواقف عملانية. فتركيا استضافت على مراحل اجتماعات المعارضة السورية، وقامت باستحداث مخيم للاجئين على الحدود مع سوريا قبل بدء الاشتباكات بين القوات السورية والمعارضين في المنطقة الحدودية. أي انها تحركت بشكل ما لصالح المعارضين. وبتعبير بعض القيادات السورية ، فان جزءا من السلاح الذي وصل الى المعارضين في سوريا تم ادخاله عن طريق تركيا. والذريعة الوحيدة لدى تركيا لدعم المعارضين السوريين هي من منطلقات انسانية ولديهم مطالب منطقية وان على الحكومة السورية الاصغاء لها.
وعلى الرغم من وضوح المعطيات المتعلقة بتحرك المعارضة السورية، خاصة البعد العسكري والامني لهذه التحركات ، الا ان المسؤولين الاتراك لم يتوقفوا عند مسألة مهمة عندما اعلنوا موقفهم المؤيد للمعارضين تتعلق بالاسلحة التي تستخدم في المواجهات مع القوات الامنية وعناصر الجيش السوري، ومن اين حصلوا عليها ومن اين دخلت سوريا في حال كانوا مجرد أناس عاديين ومحرومين، وكيف يمكن ان تحدث كل هذه الجرائم بحق القوات الامنية السورية من قبل هؤلاء. وما هو موقع ملايين الاشخاص الذين تظاهروا دعما للحكومة السورية في تكوين الموقف التركي. وكيف يمكن تفسير كل هذا الدعم الذي تقدمه وسائل الاعلام الغربية والعربية للمعارضين والمعتدين الممزوجة بكل انواع الخداع والكذب؟ يبدو ان المسؤولين الاتراك وعن طريق الخطأ وصلوا الى نتيجة، او اوصلوا الى نتيجة، ان سوريا دخلت في طريق لا عودة فيه وان مصيرها الحتمي هو السقوط، وان تركيا باستطاعتها الاستثمار الكبير في الاحداث والتي تبدو في نظرهم حتمية، المشاركة في المعادلة التي يزعمون انها ستتشكل بعد سقوط بشار الاسد، وتحقيق الكثير من طموحاتهم الاقليمية والدولية. في حين ان واقع الامر هو ابسط ومختلف كثيرا عما يتصوره المسؤولون الاتراك.
وتخلص قراءة القيادة الايرانية الى تحديد موقفها او موقف ايران من التطورات السورية انطلاقا من مسلمات العلاقة بين الطرفين والتي لا يمكن إخفاؤها. وعليه، فان طهران تعتقد ان وجود النظام السوري ساهم في ابقاء الصراعات الجدية الموجودة في المنطقة في حال من الجمود، الامر الذي وفر الفرصة امام اللاعبين الاساسيين في المنطقة لاستعراض قوتهم بشكل محدود وبعيد عن الخطر. وان يحافظ هؤلاء اللاعبين على دورهم بالحد الادنى مستفيدين مما في حوزتهم من هامش للمناورة. هذا الوضع يعطي كل اللاعبين الفرصة لتقديم ارائهم وافكارهم وان يتحركوا باحتياط وحذر بما لا يدفع الطرف المقابل للقيام بخطوة غير مدروسة. وعلى الرغم من ان استقرار هذه المعادلة لا يرضي ايا من الاطراف، لكن الاهم هو انه لا يثير عصبية احد ويدفعه للقيام بمغامرة ما.
وتعتقد طهران ان الوضع، وعلى الرغم من كل المعطيات السابقة، قد يضطرب بشكل كبير في حال سقط النظام السوري ما قد يدفع الجميع الى التحسر والندم لانهم ساهموا في اضطرابه او لم يقطعوا الطريق على اضطرابه. عمق المسألة بالنسبة لايران واضح، وبناء عليه فان موقفها محدد . فبالاضافة الى ان اوضاع سوريا مرتبطة بشكل كبير مع المصالح الايرانية ، ومن وجهة نظر ايران فان النظام السوري يقوم بحل ازماته، واذا ما وضع حد للتدخل الخارجي، فان النظام سيكون قادرا على اعادة الامور الى وضعها الطبيعي، وان التعاطي الواقعي مع الوضع السوري سيساهم في وقوف تركيا الى جانب النظام السوري .
ان التعاون الايراني – التركي سيكون نافعا وذا نتائج مرضية طالما انه يستطيع ان يشمل اوسع مساحة جغرافية من المنطقة، وان يتقدم بحيث يساعد تركيا على تحقيق طموحاتها.
اما اذا استمرت القيادة التركية واصرت على اتباع المسار نفسه الذي ينتج مزيدا من التوتر والاختلاف والى النقطة التي تدفع ايران للاختيار مجبرة بين تركيا وسوريا، فان منطق المصالح الاستراتيجية والادراك الايديولوجي سيدفع بايران لاختيار سوريا. وعلى الجانب التركي ان لا يتعجب لهذا الاختيار الضرورة، وان يلجأ لاتخاذ اجراءات ومواقف مستقبلية اكثر دقة تساهم في قطع الطريق على ان لا تصل ايران الى هذه النقطة التي لا يمكن الفرار منها.
fahs.hassan@gmail.com
* كاتب لبناني- دبي