الذين يشعرون بالقلق وهم يرون مصر في الشهر السادس لثورة يناير الفريدة فى التاريخ تبدو وكأنها تتطوح فى خضم متلاطم من الفوضى وأعمال البلطجة والإنفلات الأمنى والاعتداءات المادية والدموية على البشر والحجر والمؤسسات والمقدسات والإضرابات والاعتصامات اليومية فى الشوارع والميادين وأمام الوزارات والمصانع والمستشفيات والصعود المفاجئ لجماعات فئوية ودينية إسلامية ومسيحية وتواجدها المكثف فى الميادين والساحات، ثم أعمال العنف والعدوان ذات الطابع الطائفى البغيض والخطير من هدم وحرق للكنائس إلى تهجير المواطنيين الأقباط من بعض القرى إلى إعتراضات على تعيين محافظ قبطى مع رفع للعلم السعودى وقطع للسلك الحديدية وقطع لأذن مواطن قبطى تطبيقا لما لم نسمع عنه من “الحدود” إلى معارك بالرصاص الحى بين مسلمين وأقباط إلى تفتت قيادات شباب الثورة إلى عشرات “الإئتلافات” التى لا تبدو مئتلفة، إلى إتهامات بالتباطؤ والتواطؤ للوزارة المؤقتة وللمجلس العسكرى إلى بزوغ أحزاب سياسية منبثقة عن جماعات دينية إلى إشاعات قد يكون بعضها حقيقيا عن أختطاف للبنات والسيدات من الشوارع والسيارات، إلى إنقسام حول أيهما يجب أن يأتى أولا الدستور أم المجلس التشريعى وتراشقات حول الدولة المدنية والدولة الدينية، وحول هذا كله تتوالى مقاطع الفيديو التى تظهر عددا من شيوخ الجماعات السلفية بالذات وهى تفتى وتنهى وتصرح مما أنزل وما لم ينزل الله به من سلطان من أحكام وأوهام لم تعرفها مصر من قبل مثل غزوات الصناديق وهدم الأضرحة وتحريم الموالد وتكفير المخالفين فى الرأى والمعتقد والمذهب والعادات.. مع علامة أستفهام كبرى حول موقف المجلس العسكرى من كل هذا.
الذين يشعرون بالقلق البالغ على مستقبل مصر وهم يرون ويعايشون كل هذا معذورون ولديهم ما يبرر قلقهم، ولكن يغيب عن إدراك الكثيرين حقيقة بالغة الأهمية لابد من استيعابها وهى أن مصر لأول مرة فى تاريخها الممتد إلى سبعة آلاف سنة هى اليوم بلا فرعون، وأن المصريين لأول مرة فى تاريخهم القديم والحديث يتصرفون دون خوف من فرعون يجثم على أبدانهم وعقولهم ومخيلتهم بظله الهائل الثقيل ضابطا كل لهاث نفس وكل فكرة وكل حركة لهم، كون أن مصر اليوم بلا فرعون هو حدث هائل ألم بمصر فجأة دون سابق إنذار أو ترتيب، حدث جلل وزلزال غير مسبوق، فقد ولدت الحضارة المصرية القديمة فى فجر التاريخ على أرض مصر وعليها فرعون، منذ الملك مينا موحد القطرين الشمالى والجنوبي الذى أسس الدولة المصرية المركزية الواحدة إلى حسنى مبارك الفرعون المخلوع والذى نأمل أن يكون آخر الفراعين، مرورا بمئات الفراعين الكبار والصغار المصريين وغير المصريين الذين حكموا مصر من أعلى رأس الهرم الإدارى، مقدمين أنفسهم مرة على شكل أنصاف ألهة أبناء الشمس أرباب الضوء وملاك الأرض والبشر والحجر، ومرة على شكل غزاة جبابرة متحضرين أو برابرة، غزوا مصر طمعا و جشعا وشهوة وغيرة- طالبين المجد والذهب والقمح، ومرة على شكل مبعوثى العناية الإلهية أو الإمبراطورية العالمية لجلب رسالاتهم وحضاراتهم ونواميس حياتهم “لأنقاذ” المصريين من أنفسهم وتاريخهم وبقية منظومة الخداع البراقة التى يلجأ إليها الغزاة فى كل مكان وكل عصر لتبرير غزوهم للآخرين.
والنتيجة أن مصر كان يحكمها دائما فرعون سواء من وسطها أو من غزاتها، وأعتاد المصريون أن يكون رأس هرم حياتهم اليومية فرعون واحد أحد يحكم ويأمر فتنحنى له الرؤوس طاعة وخضوعا، خوفا أو أحتراما أو نفاقا، وسواء كان عادلا أم ظالما فقد كان المصريون يشعرون على الأقل باستتاب الأمور وأستقرار منظومة الحياة من أول نزول لأول قطرة من فيضان النيل كل صيف إلى آخر موسم للحصاد حيث تتولى الدولة الاستحواذ على محاصيل القمح والذرة والقطن، فالمصرى الذى كان فى الأغلب فلاحا مرتبطا بأرضه ونيله من جهة، مستسلما لمن هو أقوى منه سواء هو إله أو نصف إله أو فرعون أو خليفة أو ملك أو مملوك أو خديوى أو رئيس من جهة أخرى، وجد فى هذه العلاقة بين الإله والعبد- الحاكم والمحكوم- مفتاحا وحلا معقولا لحياته على الأرض بل وتفسيرا مقبولا لحياته بعد الموت، منذ أن أبتكر المصرى القديم فكرة الأبدية وأخترع الخلود واعطى مفاتيح هذه وتلك للكاهن أو الشفيع أو المريد أو شيخ الطريقة أو الداعية. وهكذا دأب المصرى على تسليم مفاتيح دنياه للفرعون ومفاتيح دينه وآخرته للداعية، واستسلم لراحة الطاعة والخضوع لهذه القوى الأرضية والسماوية معا، و يمكن القول أن المصرى لم يعش حرا أبدا طوال تاريخه الطويل، ولم يعرف الحرية فى أى من أشكالها الجسدية والفكرية والروحية على الأطلاق كمجتمع وكجماعة.
وقد كان أكثر ما صدمنى وأدهشنى عندما خرجت فى شبابى من مصر إلى ألمانيا أولا ثم الولايات المتحدة، هى تلك الحرية البسيطة التلقائية القوية المدهشة التى رأيت كل شاب وفتاة يرفل فيها فى الغرب، فتظهر عليهم فى هيئة حرية شخصية باهرة وعفوية بسيطة وصادقة فى الفكر والفعل معا، رأيت شبابا يكاد أن يكون كامل الاستقلالية والفردية، يمارس وجوده ويحقق ذاته واختياراته بلا خوف من سلاسل وقيود ظاهرة أو خفية، إجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو دينية.
كان المصريون بعيدين عن هذا غير واعين حتى بإمكانية وجود هذا القدر من الحرية الشخصية والإمتلاك الكامل للذات لغياب ذلك عن حياتهم وتجربتهم – وكانوا قد أبتكروا لأنفسهم أسلوب حياة عبقرى يعوضهم عن افتقداهم للحرية الشخصية وإمكانية تحقيق الذات عن طريق الإنغماس فى الجماعة والتماهى مع المتطلبات الاجتماعية بكل شموليتها وأثقالها، مع اللجوء للسخرية الشديدة كأسلوب نقد ومقاومة فردية وجماعية معا، يقاومون ويتحملون بها ويعزون النفس ويروحون عنها بها، من ناحية، وأسلوب المجاملة الشديدة للتخفيف من قسوة الواقع المهين ومنافقة كل من هو أعلى فى سلم السلطة والتسلط توخيا للأمن وتجنبا للشر وتحقيقا لما تيسر من فتات المصالح وبقايا الآمال.
ولكن السنوات الأربعين الأخيرة منذ السبعينات شهدت حركة هجرة كبيرة لشباب تلك الأيام إلى أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا، أدت إلى تكوين جاليات كبيرة استقر روادها بعد جهاد السنوات الأولى وولد وترعرع أولادها المتحدثين ببعض العربية مع لغة بلادهم الأجنبية فى مناخ من الحرية الشخصية والاستقلالية والتحقق الذاتى أثار إعجاب أولاد عمومتهم وأصدقاءهم من الشباب المصرى الذى كانوا يتواصلون معهم بالزيارة ووسائل الاتصال المتسارعة التقدم، ومع تتويج هذا كله فى العشر سنوات الأخيرة بالانترنت والطفرة الهائلة فى وسائل التواصل والمعرفة بين البشر ترعرعت شريحة من الشباب المصرى المختلف من الطبقتين العليا والوسطى المثقفة فى مصر، راحت فى الخمس سنوات الأخيرة تعزز تواجدها وتوسع من علاقاتها العولمية عن طريق الفيس بوك بالذات، حيث فى مصر نسبة أستخدام هى بين أعلى النسب فى العالم. اكتشف الشباب المصرى مع هذه كلها وجود شباب مثله يتمتع بقدر هائل من الحرية والكرامة والتحقق الذاتى فى المجتمعات الغربية، ورأى أن من حقه أن يطلب لنفسه التمتع بنفس هذه الحريات والحقوق التى لمس بنفسه كيف تؤدى إلى حياة أفضل وأجمل وارحب.
وعندما قام نظام مبارك الذى يمثل أسوأ ما فى نظام الفرعون من بطش وغلاظة فكرية وروحية وإذلال للشعب المصرى، مع مذلة وتبعية مهينة لقوى الخارج المجاورة والبعيدة. عندما قام بلطجية هذا النظام بتهشيهم رأس شاب مصرى برئ جميل هو خالد سعيد فى الإسكندرية لإنه تجرأ على الاعتراض والتساؤل ، ثم راح نظام الطاغية يكذب بافتضاح فاجر ويحمل الضحية جريمة قتل نفسه زورا وبهتانا، ثار شباب مصر وقال على الفيس بوك: كلنا خالد سعيد! بقيادة شاب هو أحد رموز عصره العولمى المتفتح على الحرية والتواصل والتكنولوجيا وهو وائل غنيم المدير الأقليميى لشركة جوجل فى الشرق الأوسط، وكانت حركة كلنا خالد سعيد الدينامو المحرك لشرارة الثورة الشبابية التى سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية شاملة.
كانت الشعارات التى رفعها شباب الثورة فى يومها الأول فى 25 يناير هى الحياة والحرية والعدالة الاجتماعية- وسلمية سلمية، والشعب يريد إسقاط النظام، وأرفع رأسك فوق إنت مصرى، وكلها تعبر عن روح ثقافة هذا الجيل الجديد المختلف من الشباب المصرى الذى رفض أن يستمر فى الخضوع لسلاسل وقيد الطغاة والدعاة التى استسلم لها جيل آبائه وكل جيل قبله ، كان جليا أن الثورة هى ضد الطغاة والدعاة معا، فقد خرج الفوج الأول من شباب الثورة المثقف أول أيام الثورة ضد التصريحات الرسمية للدعاة – المسلمين والمسيحيين- الذين أعلنوا عدم مشاركتهم وقالوا بعدم حكمة التظاهر وبمخالفته لطبيعة الدين وتعاليم الشريعة !! القيادة الكنسية القبطية، وقيادة الأزهر الشريف، وابرز الدعاة بالفضائيات، أعلنوا كلهم الوقوف ضد الخروج للتظاهر، ونذكر الجميع أنه لم يرتفع صوت واحد لهؤلاء الدعاة- مسلمين ومسيحيين- يطالب بالتحقيق فى جريمة قتل خالد سعيد، ولا أقاموا الصلاة طلبا للرحمة على روحه، ولا قالوا قولة حق واحدة فى وجه سلطان جائر قتل الشهيد ثم راح يشوه صورته وسيرته بفجور لم يقف أحد من الدعاة ضده، وهكذا خرج الشباب يطلب حريته وتحرره من ظلم الطغاة والدعاة معا، وما أن كان أحد المتظاهرين يحاول الهتاف – “إسلامية إسلامية” أو يرفع شعارا دينيا إلا وتصدى له الشباب من حوله لكى تظهر ثورتهم مدنية وطنية حرة متحررة من كل الأغلال السياسية والدينية معا.
بعد سقوط آلة البطش البوليسية الجبارة للنظام وخلع الفرعون، راحت الجماعات الدينية التى تقاعست عن الثورة على مدى أجيال وعقود سابقة ولم تشارك فى ثورة يناير إلا بعد أن رجحت كفة نجاحها تحاول سرقة ثمارها، وراح الدعاة يرفعون أصواتهم من جديد، دون أن يخجل الذين تقولوا ضد الثورة وشبابها من مدحها اليوم رغم وجود التسجيلات بالصوت والصورة التى تفضح نفاقهم وتهافتهم فى الحالتين، والذى يعنيه هذا الآن هو أن قوى التسلط وتكبيل الحريات بدعاوى سياسية أو دينية ستحاول بكل تاريخها الثقيل والدامى المعادى للحرية الإنسانية أن تستمر فى التسلط بنفس أساليبها القديمة البالية ولكن فى أشكال جديدة تتحدث بعض لغة العصر دون أن تفهم أو تتلبس روحه المغايرة- وكل ماأفرزته القوى السلفية والإخوانية التى ظهرت على الساحة بعد الثورة تريد لنفسها دورا سياسيا، وليس دينيا فقط، وما قاله دعاتها يفضح مدى الرجعية الفكرية للرؤية التى يقدمونها لنا، كما تفضح أعمالهم العدوانية من قتل وهدم وحرق مدى بدائية أساليبهم المعادية للحريات والحقوق التى تعارفت عليها الحضارة الإنسانية اليوم، لقد فشل الاخوان تاريخيا في مواصلة حركة التجديد المثيرة الواعدة التي بدأها الطهطاوي ومحمد عبده، ومضوا في مسيرة تنكرت لروح العصر واختارت الانغلاق الفكري والصراع السياسي فأدت إلي إجهاض كل محاولة للنهضة، وهاهي التيارات الدينية علي وشك تكرار خطيئتها بإصرارها علي العودة البائسة لزمن آخر في رؤاها وخلط السياسة بالدين بينما تحرر العالم المتقدم كله من هذا فاستطاع الانطلاق في السبق العلمي والحضاري.
ما يحدث اليوم من فوضي هو إفراز طبيعي لواقع أن مصر اليوم بلا فرعون وأن المصريين يجربون الحرية لأول مرة فيخطئون في فهمها وتطبيقها كما يكبو طفل يتعلم السير، ولكن هذا ثمن لابد من دفعه، المستقبل البعيد لمصر هو مستقبل الحرية والحقوق والكرامة والحضارة، لا أشك فى هذا لحظة واحدة، أما الحاضر فيتطلب من الذين قاموا بالثورة وكانوا طليعتها الشبابية المنفتحة على العالم الرافضة للأغلال السياسية والاجتماعية بما فيها أغلال الغلو الدينى البعيد عن الروح المصرية الوسطية المحبة للحياة وللمرح، يتطلب جهودا هائلة لابد أن تبدأ اليوم ولا تنتهى أبدا، جهودا تظهر فى هيئة تشكيل سريع وجاد لأحزاب وتجمعات سياسية شابة ومتوثبة تكبر سريعا، تقدم للمصريين نفس الرؤية الحضارية المدنية الباهرة التى رأيناها أول أيام الثورة لتقدم البديل الجميل المضئ للرؤية البالية الخارجة عن العصر التى يقدمها التيار الدينى وقادته الذين لا يزدهرون إلا فوق السلاسل والقيود التى يريدون بها تكبيل الروح المتوثبة المتأججة فى نفوس شباب يتشوق للحرية الرحبة والتحقق الذاتى والفرح الإنسانى والتدين على الطريقة المصرية، وليس البدوية، فى أسلوب عصرى حضارى يليق بمصر الجديدة.
إنه صراع ثقافى وفكرى طويل لابد من خوضه، تتطلبه وتسمح به الحرية والديموقراطية ولا يجب أن يخيفنا حتى ولو بدت قوى الردة الفكرية ضخمة وعتية، لأن الشباب الذى حقق معجزة الثورة قادر، هو ونسله، على تحقيق الحضارة المصرية الحديثة القادمة.
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك