تنويه: هذا أول مقال للصديق مصطفى اسماعيل منذ أكثر من عام قضاه في سجون الطغيان. وهي مناسبة للترحيب بعودة الصديق مصطفى، الذي امتنعنا عن تناول موضوعه إلا بصورة غير مباشرة على “الشفاف”، أو عن القيام بـ”حملة” لإطلاق سراحه، لأن “تهمة” الكتابة على “الشفاف” تزيد من عقوبات السجن في نظام “الممانعة” السوري! وشكراً لشعب سوريا الثائر الذي أسقط، ببطولته، ضرورة “التحفّظ” التي كنا ملزمين بها.
للأصدقاء “المحابيس” السابقين والحاليين تقديرنا وصداقتنا، ونخص منهم فراس، وأنور، وعلي، وأكرم، ورياض، وحبيب، ومصطفى… وأصدقاء آخرين لم يحن الوقت لنشر أسمائهم بعد!!
الشفاف
*
أصدرت “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي في سورية” وثيقتها السياسية يوم 30 يونيو/حزيران 2011، مضافة إلى العديد من المشاريع والأطروحات والمبادرات الجماعية والفردية التي أطلقت في الآونة الأخيرة، أو تنتظر إطلاقها من منصات ومنابر أخرى في الأيام القادمة. وكلها تندرج في إطار مقاربة الحالة السورية وتشريحها وإيجاد الحلول المناسبة لها، وهي حلول نظرية فكرية لا يمكن لأية جهة ترجمتها على الأرض، في ظل تعنت السلطة السورية وعملها على أن تكون الممر الإجباري لأي حل مفترض. وإذا كانت الصياغات تختلف من وثيقة إلى أخرى، إلا أن هنالك العديد من القواسم المشتركة فيما بينها. وهي وثائق وأطروحات يرفضها الشارع السوري المنتفض جملة وتفصيلاً، إذ حسم خياراته، ولم يعد يعبأ بالتنظيرات الفضفاضة والمقولات كاملة الدسم، والمفهمة النظرية السياسية للأزمة وسبل حلها.
تقدم الوثيقة قراءة تمهيدية لراهن البلاد وعمق الأزمة الوطنية، وتضع النقاط على حروف العديد من المسائل والقضايا، وتراهن الوثيقة على عقد مؤتمر وطني عام وشامل كمخرج من الأزمة الراهنة التي تعصف بالبلاد، لكنها تعلقه على شرط “إطلاق حوار جاد ومسؤول يبدأ بتهيئة البيئة والمناخات المناسبة ليكتسب مصداقيته والثقة به” مبني على سلة نقاط جوهرية من شأنها تهيئة الأرضية المناسبة للحلول السياسية من أجل تفكيك الأزمة. وإذا كانت الوثيقة لم تطلب من الرئيس السوري الرحيل بكلمات صريحة وواضحة، إلا أن العديد من الفقرات والنقاط الواردة في متن الوثيقة تشير إلى ذلك مواربة. فالورقة / الوثيقة تدعو إلى “حكومة انتقالية مؤقتة تعمل على دعوة هيئة وطنية تأسيسية” من أجل جملة أمور من بينها: “وضع مشروع دستور لنظام برلماني يرسي عقداً اجتماعياً جديداً يضمن الدولة المدنية وحقوق المواطنة المتساوية لكل السوريين ويكفل التعددية السياسية وتكافؤ الفرص بين الأحزاب، وينظم التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، ويرشِّد مهام وصلاحيات رئيس الجمهورية ويحدد عدد الدورات الرئاسية”.
إلا أن الوثيقة باعتبارها اجتهاداً سياسياً معلناً، مشوبة بالثغرات والنقص في مواضع عديدة. فالدعوة مثلاً إلى عدم تقييد الحياة العامة المجتمعية بقوانين مشابهة في روحها لقانون الطوارىء سيء الصيت والتدليل على ذلك بإيراد قانون 49 لعام 1980 مثالاً حصرياً هو أمر مرفوض. وكان لزاماً على الهيئة المصدرة للوثيقة الإشارة إلى “سياسة الحزام العربي” التي طبقت في الجزيرة السورية عبر توطين العرب السوريين في الأراضي الزراعية الخصبة العائدة للمواطنين الكورد السوريين منذ أواسط السبعينيات من القرن المنصرم أيضاً.
في سياق متصل، لم تنحرف الوثيقة في موقفها من القضية الكوردية والشعب الكوردي عن مسار نظيراتها من الوثائق والمشاريع الصادرة عن الأطر المعارضة السورية، في ابتسارها للقضية الكوردية واختزالها وتالياً تسويفها إلى إشعار سوري غير معلوم آخر. وقد مضى البعض الحزبي الكوردي إلى رفض التوقيع على الوثيقة بحجة مفادها أنها فيما يتعلق بالموقف من حقوق الكورد غامضة وملتبسة. إلا أن العكس هو الصحيح، فالفقرة الخاصة بالكورد في نص الوثيقة واضحة جداً في تأجيل تقديم موقف حاسم من القضية القومية للشعب الكوردي، التي هي قضية وطنية سورية أيضاً. وإذا ما فككنا الفقرة إياها بنيوياً للاحظنا التناقض والتلاعب والتسويف وبذور المماطلة وعدم الرضى عن إدراج هذه القضية بشكل حاسم في المسار السوري الراهن والمستقبلي، فالجملة التالية (الوجود القومي الكردي في سورية جزء أساسي وتاريخي من النسيج الوطني السوري) حاملة للتأويل وكان يمكن أن تكون كالتالي (الشعب الكوردي في سوريا مكون أساسي وبارز للوطن السوري)، والجملة التالية (إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في إطار وحدة البلاد أرضاً وشعباً) تعني أن الطرف العربي لا يقبل لا بالحكم الذاتي للكورد ولا بالفيدرالية ولا بالإدارة الذاتية للمناطق الجغرافية الكوردية. هذا فيما يتعلق بـ(وحدة البلاد أرضاً) أما (وحدة البلاد شعباً) فتعني التخلي الكوردي عن خصوصيته القومية وتمايزه القومي. فـ(وحدة البلاد شعباً) تعني في تعريفات المعارضين السوريين (المواطنة) التي هي المبتدأ والمنتهى في تعاطي أولئك المعارضين مع الفسيفسائية السورية. أما (العمل معاً لإقراره دستورياً) فهو يوضح النيات السيئة المخفية وتسويف البت وطنياً بالقضية الكوردية إلى حين عودة الديناصور المنتظر، وكان يمكن للجملة أن تتقدم في السياق على ما عداها وبالصياغة التالية (الإقرار الدستوري لـ …. ). أما مربط الفرس في الفقرة المخصصة للكورد في متن وثيقة هيئة التنسيق فهي الجملة التالية (… وهذا لا يتناقض البتة مع كون سورية جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي). فالهاجس الأساس بالنسبة لقوى العربية المعارضة هو الانتماء السوري إلى الفضاء العربي، وإذا ما كان من شأن أمر ما أو قضية ما الإخلال بهذا الانتماء فيمكن أن تدور الدوائر على ذلكم الأمر أو القضية. لا مبرر إذن لهذه الجملة، وكان ينبغي احتراماً لمشاعر المكونات القومية لسوريا عدم إيرادها.
وإذا ما شئنا إعادة صياغة تلكم الفقرة الخاصة بالكورد في وثيقة هيئة التنسيق المعارضة يمكننا صوغها كالتالي: (الشعب الكوردي مكون أساسي وبارز لسوريا، الأمر الذي يقتضي الإقرار الدستوري بالحقوق القومية للشعب الكوردي في إطار وحدة البلاد، بشكل ديمقراطي، وبما يتطابق مع العهود والمواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومة السورية).
الفقرة المتعلقة بالكورد في نص وثيقة هيئة التنسيق هزيلة وركيكة بنيوياً إذن، وهي حمالة أوجه، وكان من الأفضل لو لم توقع عليها الأحزاب الكوردية، وهي لا تستحق السفر إلى دمشق وتكبد مشاق السفر ووعثاء الطريق. أما والحالة هذه، فما علينا سوى انتظار مؤتمر الإنقاذ الوطني، وما سيتمخض عنه من إطار عام وموقف من القضية الكوردية في البلاد، ولا أتمنى أن نلدغ من جحر ثلاث مرات ( بعد هزالة الموقف من القضية الكوردية في نص وثيقة إعلان دمشق عام 2005 وفي نص وثيقة هيئة التنسيق عام 2011).
في انتظار ذلك، نقول لصالح مسلم ومحمد موسى وجمال ملا محمود، وهم ممثلو الأحزاب الموقعة على الوثيقة: حظاً أوفر.
mbismail2@gmail.com
محامي وكاتب سوري