حفلت الإنتخابات العامة التي جرت مؤخرا في سنغافورة (حيث التصويت إجباري) والتي جاءت بعد قيام رئيس الجمهورية “سيلابان راما ناتان” بحل البرلمان في أعقاب تمرير تعديلات دستورية تتيح إجراء الإنتخابات التشريعية وفق قاعدة القوائم النسبية، بجملة من المفاجآت والتداعيات، وإن كان جميع الأحزاب والفعاليات السياسية قد أجمعت مسبقا على أن تلك الإنتخابات فارقة لجهة مستقبل البلاد السياسي.
ففي الإنتخابات الأخيرة تنافست المعارضة مع “حزب العمل الشعبي” المسيطر على الحكم في البلاد منذ عام 1959 (13 ولاية متتالية دون إنقطاع) لأول مرة في معظم الدوائر الإنتخابية (82 من أصل 87 دائرة إنتخابية). ورغم أن النتائج جاءت لصالح الحزب الحاكم بحصده 81 من أصل 87 مقعدا برلمانيا، فإن الأخير رآها ، على لسان رئيس الحكومة “لي سيين لونغ”، كأسوأ نتيجة يـُمنى بها الحزب في تاريخه، لأن نسبة من صوّت له كانت 60% من المقترعين في مقابل 67% في إنتخابات 2006، و 75% في إنتخابات 2001. أما “لو تيا كيانغ” الأمين العام لحزب المعارضة الرئيسي (حزب العمال السنغافوري)، فقد رأى في حصد حزبه لستة مقاعد برلمانية، وفي فوزه على الحزب الحاكم في أحد معاقله المهمة (دائرة “الجنيد”) دليلا على قبول الجماهير بحزب العمال كحزب مسئول ومحترم، وثقتها برموزه.
أما باقي الأحزاب السنغافورية فلم يحالف أي منها دخول البرلمان ، رغم حصول بعضها على نسب معتبرة من أصوات المقترعين. لكن المهم في المشهد أن هذه القوى رغم خسارتها قبلت النتائج بروح رياضية، ولم تخون أو تتهم الحزب الحاكم بالتآمر ضدها، بل سارعت إلى التأكيد على أنها ستمضي قدما من أجل خير البلاد ورفاه شعبها والمحافظة على مكتسباتها.
أما الحدث الآخر الذي كان من ضمن تداعيات نتائج الإنتخابات، والذي يجب أن يتمعن فيه الكثير من ساسة العالم الثالث فهو ما أقدم عليه صاحب المعجزة السنغافورية “لي كوان يو” (87 عاما) وخليفته “غوه تشوك تونغ” (71 عاما) بمجرد ظهور نتائج الإنتخابات. فالرجلان سارعا عبر بيان مشترك إلى الإعلان عن إنسحابهما من الحياة السياسية، قائلين أنهما مقتنعان أن الوقت قد حان لإتاحة الفرصة أمام جيل جديد من السنغافوريين للإنخراط في السياسة وإدارة البلاد.
لقد بدا واضحا منذ الوهلة الأولى لبدء الحملات الإنتخابية في إبريل ومايو الماضيين أن الحزب الحاكم يواجه هذه المرة صداعا مشابها للصداع الذي يواجه بعض الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط والمتأتي من وسائل الإعلام الجديدة وشبكات التواصل الإجتماعي مثل “الفيس بوك” و “التويتر”، خصوصا وأن سنغافورة تعتبر اليوم من أكثر بلدان العالم إستخداما لمثل هذه الشبكات، بدليل أن مليونين من أصل عدد سكانها البلغ خمسة ملايين نسمة لديهم مدونات إليكترونية خاصة ويستخدمون الإنترنت للترويج لأفكارهم أو حشد الناس وراء فكرة أو شخصية عامة أو حزب ما.
وعلى الرغم من أن المعارضة في سنغافورة لا يــُعتد بها، ويــُنظر إليها بصفة عامة على أنها مظهر من مظاهر الترف السياسي، فإنها بدأت في السنوات الأخيرة تطل برأسها وتحشد السنغافوريين خلفها من خلال إستخدام وسائل الإعلام الجديدة. وهذا ما بدأه تحديدا “حزب سنغافورة الديمقراطي” غير الممثل في البرلمان المنحل أو الجديد، حينما إستطاع تكوين شبكات تواصل قوية يفوق حجمها وإنتشارها تلك المملوكة للحزب الحاكم، وتـُجدّد معلوماتها أولا بأول، وقادرة على جمع الأموال والتبرعات.
ولعل أهم ما ركزت عليه هذه الشبكات في حربها ضد الحزب الحاكم، هو دفع الناس إلى النظر إلى الجزء الفارغ من الكوب السنغافوري ، ونسيان الجزء الممتليء منه، بمعنى تجاهل المعجزة التي خلقها “لي كوان يو” خلال سنوات حكمه الثلاثين، والتي نقلت سنغافورة من مستنقع قذر إلى مصاف دول العالم الأول في التصنيع والخدمات والبنى التحتية والإسكان والتعليم ومعدلات الدخول الفردية التي تبلغ اليوم 48745 دولارا ( أعلى معدل دخل فردي في آسيا بعد اليابان)، والتركيز بدلا من ذلك على ما تذكره بعض التقارير الأجنبية (مثل تقارير “مراسلون بلا حدود”) من تخلف البلاد في مجال الحريات الصحفية والإعلامية، ووجودها في مرتبة واحدة مع زيمبابوي لجهة حرية التعبير.
والحقيقة أن تقارير”مراسلون بلا حدود” حول سنغافورة استندت كثيرا في مضامينها على حقيقتين: الأولى هي أن “الشركة القابضة للصحافة السنغافورية” التي تملكها الدولة، ويضم مجلس إدارتها أعضاء كثر من المنتمين إلى الحزب الحاكم، هي التي تملك معظم دور النشر وتتحكم فيها. والثانية هي أن الصحافة المحلية عـُرفت تقليديا بدعم سياسات ومواقف الحكومة إنطلاقا من ثقافة ترسخت عبر الزمن بضرورة فرض رقابة ذاتية على القلم وعدم الإنجرار إلى لعب دور الناقد الدائم لأعمال الحكومة.
وردا على التهم المتكررة التي وجهتها قوى المعارضة إلى كبرى صحف البلاد وهي “ستريتس تايمز” بأنها مجرد بوق للحزب الحاكم، قال رئيس تحرير الصحيفة المذكورة ما معناه: لو كانت إتهامات المعارضة صحيحة لما فاق توزيعنا 380 ألف نسخة، ولما كان عدد المشتركين في صحيفتنا يصل إلى 1.4 مليون قاريء، ولما حظينا بالمصداقية التي تؤكدها هذه الأرقام.
ولعله من المهم في هذا السياق أن نذكر شيئا من الحقائق التي تدحض بعض مزاعم التقارير الأجنبية حول سنغافورة. من هذه الحقائق أن حزب العمل الشعبي الحاكم لطالما تجنب قمع أصحاب القلم والرأي، مفضلا الوصول إلى حلول ودية معهم عبر التفاهمات والمناقشات الهادئة. ومنها أنه لئن كانت الدولة شريكة في ملكية الصحافة، فإنه في النتيجة النهائية لا بد من الإعتراف بأن الثقافة الإعلامية والسياسية في سنغافورة تتشكل بالترغيب وليس بالترهيب والقهر (على نحو ما قال الصحافي السابق في جريدة “ستريتس تايمز” والأستاذ المشارك في معهد “كيم وي” للإتصالات والإعلام التابع لجامعة نانيانغ التكنولوجية البروفسور”كيريان جورج”. هذا ناهيك عن حقيقة أنه مع ظهور الإعلام الإلكتروني، صار من الصعب على السلطات السنغافورية تقييدها، وفرض الحصار عليها، أو تطبيق قانون الطباعة والنشر القديم لعام 1974 والذي كان يفرض على ملاك الصحف تجديد رخص صحفهم سنويا من أجل مضايقتهم متى رأت السلطات في ذلك فائدة لإلزامهم بتوجه معين.
إلى ذلك فإن السلطات السنغافورية، التي كانت في عام 1996 الأولى في العالم لجهة حجب وإزالة ما لا يتوافق مع توجهاتها في الصحافة الإلكترونية، صارت منذ عام 2009 تتيح للأحزاب السياسية إستخدام الإعلام الجديد دون قيود في حملاتها الإنتخابية والترويج لمرشيحها وبرامجها، وكذلك تسجيل وتسويق الأفلام السياسية التي تخدم أغراضها، وهو الأمر الذي لم يكن مسموحا به في الإنتخابات السابقة عام 2006. وفوق هذا وذاك صارت الحكومة لا تجد حرجا في إقامة المناظرات السياسية مع أحزاب المعارضة على الهواء مباشرة من خلال شاشات التلفزيون الرسمي، على نحو ما حدث مؤخرا وللمرة الأولى في تاريخ الإنتخابات العامة في هذه البلاد.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh