كان للمناسبات الدينية الخاصة بالمذهب الشيعي، والتي تتجاوز المئة مناسبة في السنة، قدسية مفترضة أو مفروضة في الجمهورية الإسلامية. فتتعطل لأجلها الحياة، وتتوقف دورة الإنتاج في بلد ينمو بشريا بشكل مخيف وتدور على حدوده (في حينها) رحى حرب مدمرة تفتك بشبابه وتهدر طاقاته.
وعدا عطلة الصيف الطويلة، كانت هناك عطلة أخرى طويلة هي عطلة عيد “النوروز”، وهو عيد رأس السنة عند الإيرانيين حسب التقويم الشمسيالذي يتزامن مع بداية فصل الربيع في 21 مارس. وتستمر هذه العطلة لمدة أسبوعين كاملين، لكل يوم منها طقسه وتقاليده. ولم تفلح محاولات آيات الله المتشددين، بحجة زيادة الإنتاجية، في إلغاء طقوس عيد “النوروز” أو تقليص عدد أيامه. فرغم حرص الديّانين الجدد على إبراز وجه إيران الديني فقط للعالم الإسلامي، إلا أن تعلّق الشعب الإيراني بجذوره القومية وما تبقّى من عاداته “الزرادشتية” ظل أقوى وأقرب إلى الطبيعة من جنوح حكامه نحو التأسلم وتمظهرهم في عادات دينية مصطنعة. وبقي الإيرانيون، على تشعب إثنياتهم واختلاف قومياتهم، متمسكين بهذه المناسبة اليتيمة التي تربطهم بجميل ماضيهم وأصيل ثقافتهم كعلامة فارقة أو “وَحمة” بارزة في جسد حسناء، وفرصةً سنوية يقف فيها الإيراني أمام المرآة لا ليرى وجهه بل ليبصر نفسه كما يجب أن تكون- مجرّدة من كل التبعات والإضافات.
لملمت “الأخوات” أشياءهن القليلة الخاصة,في حقائب متضائلة، وودّعننا إلى أهلهن. وبقيت في “الحوزة” مجموعة صغيرة لا تتعدى العشرة، مع “الأخت الكبيرة. كن من مناطق حدودية جد بعيدة، وفضّلن إرجاء زيارتهن لأهلهن إلى عطلة الصيف، فالسفر إلى هناك دونه الكثير من المشقة والتعب. تحلّقنا بعد العشاء حول “الأخت الكبيرة” في سرداب المطعم، فأزفت علينا خبرا يشبه الصاعقة!
قالت:إن الإدارة سوف تكرّم الأخوات اللواتي أحجمن عن إحياء المناسبة المنافية للتعاليم الإسلامية بإرسالهن غدا إلى “تهران” لزيارة الإمام الخميني! الأخت “عاطفة” أغمي عليها على الفور، وفيما كنت أرش الماء على وجهها لإيقاظها، كانت الأخوات يذرفن دموعا غزيرةمذهولات بأنهن أصبحن على قاب قوسين أو أدنى من رؤية الجنة!
ليلا أوينا كل واحدة إلى مهجعها. إنها المرة الوحيدة منذ قدومي إلى “الحوزة” أجلس في ظلام زنزانتي وحدي، في طرف سجن صغيرهو “الحوزة”، وسط سجن كبير هو “المدينة المقدسة”، التي ليست إلا جزءا من سجن أكبر هو الجمهورية الإسلامية! الخارطة الكابوسية من الزنانزين والسجون والأناس المقيدين الذين أقيلوا غصبا من حيواتهم، ليعيشوا مجبرين حيوات أناس آخرين، منهم من لا يشعر بسجنه ومنهم من ينافق في تقبّله ومنهم من لم يتقبله أبدا، ومنهم من اختاره طوعاً مثلي.
خلوت لنفسي أحاسبها وأؤنبها على سوء إختياراتها وغباء قناعاتها!
كانت الدروس الدينية التي تفشت في المجتمع الشيعي في جنوب لبنان، مع بداية نشوء الجمهورية الإسلامية، السبب الأول في عزمي على الإلتحاق بالحوزة العلمية في “قم”. كانت “الأخت” المتدينة حديثا في قريتنا، والمتأثرة بموجة التشيع الوافدة من إيران، بعد أن أمضت سنوات صباها متحررة من كل القيود الدينية والأعراف الإجتماعية في صفوف اليساريين اللبنانيين، تجمعنا يومين في الأسبوع في منزلها، تشحننا بمزيج من الأخلاق الإسلامية والقيم الدينية المركبة، وتحثنا على التشبه بالإيرانيات نموذجا مثاليا لما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة. وفي حين أصبحتُ “فرخا” متدينا وقررت التزود بالعلوم الدينية، كانت هي تنهي آخر سنواتها الجامعية وتتوظف في أحد مصارف بيروت.
تحرك بنا الباص الصغير بعد صلاة الظهر باتجاه “تهران”.
جلست في المقعد الخلفي، أنظر من خلال زجاج الباص العريض إلى “المدينة المقدسة” التي بدأت تختفي رويدا رويدا عن ناظري كجنّي دخاني يعاود الإختفاء في قمقمه دون أن يلبي أحلام من أخرجه من عزلته الدهرية! على يميني تظهر “بحيرة الملح”. كان شاه إيران المخلوع “محمد رضا بهلوي” يرمي فيها رجال المعارضة الخطيرين حين يجد أن الرمي بالرصاص أو الإعدام شنقالا يشفي غضبه منهم. ويثور في داخلي غضب عارم على تلك اليابسة التي استأنست إلى عزلة موحشة، لا تعترف بالغريب وإن أصبح قريباً، وتنبذ القريب وتزيد غربته، وودت لو يجتاحها ملح البحيرة لتذوب وتتحلل ويمحي أثرها وتأثيرها إلى الأبد! كنت قد وضعت أوراقي الخاصة ونقوداً وأشياء صغيرة عزيزة على قلبي في حقيبة اليد، ونظرت إلى الغرفة نظرة حاقدة وصفقت الباب خلفي، وقفزت على الدرجات الحجرية الأربعة برشاقة غادرتني منذ وصولي.
–
أجمل ما يطالع القادم إلى “تهران”، المدينة المحيرة بما تظهره من تناسق غريب وبما تحاول إخفاءه من تناقضات عصية على الفهم، هو منظر جبل “دماوند” يشبع بقممه البيضاء على مدار الفصول الأربعة. نهم العيون لرؤية مساحة ملائكية اللون وسط غابات من السواد. نهبط من الباص لنبتاع ماء وشوكولاتة ثورية. في ميدان “فردوسي”، الشاعر القومي الذي مجّد أباطرة وأبطال الأساطير الفارسية بملمحته الشهيرة “الشهنامة”، يدير وجهه باتجاه وسط المدينة النابض بشتى المفارقات. هناك يزدحم شارع “إنقلاب” بالمكتبات التي تحتل واجهاتها المؤلفات الفارسية التراثية والحديثة والمترجمة إلى الفارسية من كل لغات العالم لتتيح للإيرانيين الذين دفعتهم “الرقابة” إلى تعلم لعبة التنقل بخفة أو بحكمة ما بين المسموح والممنوع، فرصة التعرف إلى أعمال أدبية عربية وعالمية لـ”غوغول” و”أراغون” و”إليوت” و”بابلو نيرودا” و”تولستوي” و”همينغواي” و”الأخوات برونتي” و”ماركيز” و”طاغور” و”عزيز نيسين” و”ناظم حكمت” و”نجيب محفوظ” و”جبران” و”محمود درويش” و”الأخوين رحباني”. وتتنقل سرا أعمال أدبية ممنوعة مثل “لوليتا”، و”مدام بوفاري”، و”آيات شيطانية”، و”ألف ليلة وليلة”، وفكرية لمحمد أركون وعلي شريعتي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرها. إلى شارع “فلسطين” الذي يحتضن سفارة تحمل اسمها، وخلف أسوارها التي ما زالت بقايا نقوش لنجمة داوود محفورة على حجارتها، حين كانت زمن الشاه سفارة لإسرائيل، يعيش عدد من الموظفين الفلسطينيين تحت رقابة أمنية مشددة ليس من أجل الحفاظ على حياتهم بل لمنعهم من الإتصال بقيادتهم.
نستقل الباص مجددا لنصل إلى تقاطع “ولي عصر” كما أسمته حكومة الثورة. الموالون للشاه ما زالوا يسمونه “بهلوي”، أما الوطنيون فيطلقون عليه “مصدق”. من أطول جادة في البلاد وفي الشرق قاطبة يتضح جليا عمق التناقض في مجتمع الثورة الإسلامية، أوالتمرد ربما! يرتقي بنا الباص صعودا صوب الشمال ونصل إلى حي “جماران” الأرستقراطي. هنا يسكن قائد الثورة في منزل متواضع تزيّن حديقته الصغيرة زهور ربيعية وأشجار مخضرة على مدار السنة، معزولاً، بعيدا عن الحياة، لم تسلبه الإضطرابات الحاصلة على مقربة من مسكنه ولا سيول الإعدامات الممهورة بتوقيعه ولا المعارك على الجبهة العراقية الإيرانية، شيئا من هدوئه.
ولجنا من بوابة الحديقة بعد أن مررنا على عدد من أكشاك التفتيش الروتينية.
لحظات ثم خرج علينا “أسد جماران” كما يسميه “حرس الثورة”. جلس على كرسي خشبي، ثم أتى أحد حراسه واضعا فوق يده اليمنى المثبتة إلى طرف الكرسي قطعة من قماش أبيض ونادى علينا: “تقدمن أيتها الأخوات لتقبيل يد القائد”!
ركعنا أمامه واحدة تلو أخرى، نستجدي بعضا من بركة الأنبياء والأئمة بقبلة سريعة على القماشة البيضاء، ثم صارت الأخوات يخرجن مترنّحات كأنهن أُصبن بمسّ سحري غيّر مجرى حياتهن. كنت أول المتقدمات لنيل بركة القبلة التاريخية، وخرجت سريعا من باب الحديقة، كمن يخرج من مشهد تمثيلي هو ليس جزءا منه بالأساس! تناولت حقيبتي الصغيرة من كشك المراقبة، وهرولت نزولا لا أدري إلى أين. عبرت الحي شارعا إثر شارع، هاربة من عيون “الحرس الثوري” و”أجهزة الأمن” ورجال الدين، ومن أنساقٍ من الطقوس النزقة والتمازج القبيح ما بين الجهل والتعصب، تحدوني متعة الهروب التي تحولت فجاة إلى فعل حرية! فتخففت من أثقال عباءتي وعلقتها على سور حديقة وأرخيت عقدة حجابي كما تفعل نساء “تهران”، وحملتني سيارة أجرة إلى ميدان “توب خانه” جنوب المدينة.
لا أدري لم وصلت إلى هذا المكان بالضبط رغم أن “تهران” مدينة مترامية الأطراف، ويمكنني التجول في شوارعها الداخلية حتى حلول المساء دون أن ألفت نظر أحد. ربما لأنه ليس على طريق عودة باص “الحوزة”، أو ربما لأنه الأثر الوحيد المتبقي من “ملك الري”، الشاهد على أعتى فرق الإرهاب والإغتيالات التي مرت في التاريخ الإسلامي. من هنا كان ينطلق الفدائيون الأوائل في الإسلام لتنفيذ عمليات الإغتيال تحت تأثير مادة “الحشيش” بعد أن يكون زعيمهم”الحسن الصباح” قد أمدهم بجرعات فائضة من الوعود بدخول الجنة إذا ما أتموا عملياتهم الإرهابية بنجاح.
دخلت مبنى “سنترال تهران” في طرف الميدان. شعرت بالدفء ينسل من الطرف الآخر للخط الهاتفي. إنها أمي، فبكيت وبَكَت.