بعيدا عن محاولة السطو المعنوي على الثورات الشعبية في العالم العربي التي يبذلها فريق لبناني، وانتحاله احتضانها والإعتزاز بها، فإن في الوقائع الأخيرة في “ممالك الصمت”، الجمهورية منها قبل الملكية ما يدعو الى التفاؤل: شرق أوسط جديد قيد الولادة، وهو بالتأكيد ليس كما يأمل مرشد الثورة الايرانية، وليس بعيدا عما يكره. فميزة هذه الثورات هي البحث عن الديموقراطية التي لم يغب عن اي عين كيف عالج طالبيها في ايران، وإن غاب عن كل العيون اين يحتجز قادتها.
حجر الزاوية في التفاؤل ان التغيير يشق طريقه بقوة لا تعرف التراجع، بدليل ان “المجتمع الدولي” “يهب” لنجدته حين يواجه عقبات، وهي نجدة “ملتبسة” سياسيا، ما جعل مؤديات الإنتفاضات واحدا من ثلاثة:
اولاها، النهاية التي رسمها هروب التونسي زين العابدين بن علي وتسلل المصري حسني مبارك، وفي موازاتهما بدء عملية ديموقراطية تأسيسية سلمية في تونس ومصر.
النهاية الثانية، هي التي رسمها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومفادها انه اصغى الى ما يريده الشعب السعودي وقرر ترجمة تفهمه ما يحتاج. وهو ما فعله امير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح، وملك الأردن عبد الله الثاني، وما يحاوله ملك المغرب محمد السادس، استناداً الى أن هذه الشعوب لا ترفض الأنظمة القائمة، لكنها تريدها أن تكون أفضل، أي أن تحسن أداءها.
النهاية الثالثة، هي التي لا تليق الا بمعمر القذافي الذي يجزم، برغم كل ما جرى، بأن الليبيين مستعدون للموت من أجله، وان التظاهرات تعم العالم العربي وأوروبا دعما لموقفه، وان من يعارضون استمراره في السلطة هم جرذان ومأجورون.
عناد “الواد المجنون”، كما كان يسميه الرئيس المصري السابق أنور السادات، وضع شعبه بين خيارين: إما العودة الى الرضوخ لجنون عظمته، وإما استحضار القوى الدولية لمنع مجازرعلى طريقة الخمير الحمر الكمبوديين، مع ما ينطوي عليه التدخل من جنوح الدول المتدخلة الى سيطرة ما على ليبيا.
” نجدة ” المجتمع الدولي، والأحرى القوى الغربية، لم تولد من فراغ، بل من توقع و تحفز ومصالح. واذا كانت ظواهر الأمور تؤكد تلقائية التحركات الشعبية، فإن مجريات بعضها قدم الفرصة لتكرار التجربة الأميركية العراقية في ليبيا اليوم، وفي غيرها غداً، لا سيما اليمن، المرشح الأوفر حظاً لقرار دولي مستنسخ عن القرار 1973الذي شرّع التدخل في ليبيا.
فالربط بين العمليات العسكرية لشل قدرة القذافي العدوانية، والتصريحات الديبلوماسية الدولية، لا سيما الأميركية، والتأخر في اتخاذ القرار، يفيد بأن ما يسعى اليه آباء المبادرة الدولية العسكرية هو استمرار الإنقسام السياسي – الجغرافي الليبي بين “دولة طرابلس ” و”دولة بنغازي”، مع حالة اللاسلم واللاحرب، ما “يحتم” وضع منابع النفط تحت حماية دولية، بحجة ان تعرضها لأي خطر سيهدد الاستقرار الاقتصادي العالمي، وهو كالاستقرار الأمني الدولي، “يجب صونه بأي ثمن”.
النفق الذي دفع القذافي بلاده اليه، يدعونا، ربما، الى اعادة تقييم “نهايتي” الرئيسين التونسي والمصري، “وتثمين” هروبهما من مواجهة شعبيهما،وإصدار شهادات حسن سلوك لكل منهما.
قد يكون لعولمة التواصل دور في انطلاق هذه الثورات الشعبية، لكن هذا الوعي المفاجئ، بعد طول صبر على الظلم في دول المنطقة، لا تكفي صفحات على موقع تواصل اجتماعي لتفجيره، ولا يجب أن تحجب عن المتابعة إلتقاء المصلحة بين الشعوب المضطهدة في دولها ومن أنظمتها، وبين الدول الصناعية الكبرى التي طفح كيلها من تدفق المهاجرين من جهة، وفشل الأوروبيين تحديدا في تطبيق مشروع تحديث الضفة الجنوبية من البحر الابيض المتوسط لإبقائهم في أوطانهم من جهة أخرى، عدا ما سيتيحه تغيير الأنظمة من مجالات تعاون جديدة، وإنفاق مالي من جيب الجنوب، وعلاقات سياسية أكثر أمنا مع أنظمة جديدة أكثر ثباتا لعقود مقبلة.
كون الأنظمة التي اهتزت حليفة لأميركا، كما قال السيد حسن نصر الله، لا يعني إن التغيير انقلاب على العلاقة معها، بل على أدائها الداخلي، بدليل أن الشعارات طالبت بالحرية والرغيف ولم تحرق علما أميركيا ولا حتى اسرائيليا.
لقد وحدت الأنظمة الديكتاتورية الشعوب وأميركا (وغيرها) في وجهها، وهي التي استعانت بها طويلا لتثبيت وجودها حتى حين كانت تلوح بالعداء لها. وإذا بدا للبعض أن انهيار أحجار الدومينو سيتوقف هنا أو هناك من دون أن يستكمل تردداته، فإن ذلك لقصور في تنبهه. ولا ينفع إشاعة الوهم بأن العداء لاسرائيل سيحمي هذا النظام أو ذاك، لأن الناس لا تريد إسقاط هذا العداء بل ممارسته إنطلاقا من حقها في عداء مثمر وطنيا لا يكبل الداخل فيما يحرر العدو من المواجهة عقودا، بل العكس تماما.
عاش العرب نصف القرن الفائت، وعقدا من الراهن، في عداء مع اسرائيل مقرون بالتخلف والظلم . ألا يمكن أن يتعايش هذا العداء مع الحرية والتقدم، وهما حرب معها بطريقة مختلفة؟
وقائع يقظة الشرق الجديد تقول إن تأخر الانفجار هنا أو هناك لا يعني أنه لن يأتي، بل أنه يختمر. فالمستحيل أمس صار ممكنا اليوم، فكيف به غدا ؟ وكيف بمن ينكر على شعبه الثورة ويباركها عند جاره، كما يفعل النظام الايراني ومن يتحالف معه؟
إنه وقت التفاؤل.
rachfay@gmail.com
* كاتب لبناني