-1-
تطرح هذه الورقة من الأسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات. وهذا، انطلاقا من قناعة مفادها أن الكلام في الثقافة وعنها ممارسة: نقدية، إشكالية، وسجالية في آن. أو هكذا ينبغي أن تكون.
وفي هذا السياق فإن أوّل ما يتبادر إلى الذهن سؤال حول معنى عقد مؤتمر في أواخر العام 2010 للكلام عن فكر للحداثة في فلسطين قبل العام 1948. فلنضع النوستالجيا جانبا، ولنفكر في أشياء من نوع أن في كل زيارة للماضي محاولة للبحث عن الحاضر، وللكلام عنه على سبيل التبرير، أو التفسير، أو التنوير. وفي أغلب الأحيان لا يحضر الماضي إلا باعتباره إشكالية تخص الحاضر، حتى في الحفريات الأركيولوجية التي رافقت ظهور الدول الجديدة.
السؤال في صيغة أخرى: لماذا يبحث الفلسطينيون الآن وهنا عن حداثة في الماضي؟
ثمة أكثر من إجابة، ربما الأبرز من بينها ما يتصل بإحساس عام، على الأقل، لدى قطاع من المثقفين الفلسطينيين، بأن صعود الإسلام السياسي في فلسطين، وفي الإقليم، ينطوي ضمن أمور أخرى على تهديد لقيم وأفكار “حداثية” وسمت الثقافة حتى وقت قريب في فلسطين والعالم العربي بشكل عام.
وعلى الرغم من حقيقة أن حضور الإسلام السياسي ملموس بقدر أكبر في حقل السياسة، ولم يتمكن بعد من تحقيق اختراقات “ثقافية” يعتد بها، إلا أن في تأثير الفضائيات والإنترنت على الثقافة الشعبية، ودورهما في إنتاج وتعميم قيم معيّنة، وتدهور مكانة الثقافة “الرفيعة” علامات لم يفشلوا في تأويلها، وإدراك ما تنذر به من تحوّلات بعيدة المدى.
وإذا شئنا وضع السؤال السابق في إطار أوسع فلنقل: إن في البحث عن فكر للحداثة في فلسطين قبل النكبة، محاولة للقيام بعمل يشبه ما أسماه إيريك هوبسباوم اختراع التقاليد. ففكر الحداثة اليوم، كائنا ما كان تعريفه لدى القائلين به، يبحث عن شرعية في الماضي تبرهن على أصالته، وعلى كونه يمثل امتدادا طبيعيا لتقاليد وطنية محلية وعريقة.
لم يكن فكر “الحداثة” في فلسطين معنيا بالدفاع عن نفسه، أو بالبحث عن سند في الماضي، قبل عقود قليلة، لكن الإحساس بوصول الحركة الوطنية الفلسطينية – التي لم تكن مرجعياتها الحداثية عرضة للتساؤل من قبل – إلى نهاية الشوط، بات أمرا شائعا. ولم يعد وصمها بالفاشلة مستهجنا. ونذكر، مثلا، بأن أسعد غانم كرّس دراسة تحليلية مقارنة لتعيين أوجه الفشل في الحركة الوطنية والتدليل عليها.
-2-
وثاني ما يتبادر إلى الذهن من اسئلة رئيسة يتمثل في تساؤل حول المقصود بالحداثة، وحول مفهوم الثقافة، أيضا. بماذا يفكر الداعون إلى والمشاركون في مؤتمر يعالج فكر الحداثة، بقطع النظر عن الفترة الزمنية موضوع البحث؟
الحداثة، في الواقع، حداثات، وهي ليست سمة من سمات الأزمنة المعاصرة. ففي كل مرحلة من مراحل الوجود البشري على الأرض، بما فيها العصر الحجري، كانت ثمة حداثة من نوع ما. وهذا صحيح بقدر ما نعرّف الحداثة باعتبارها: أولا خلخلة للمرجعيات terms of reference تؤدي إلى توليد مرجعيات جديدة، وثانيا باعتبارها تحوّلات تطرأ على المعيار العام السائد paradigm تؤدي في نهاية الأمر إلى معيار جديد.
وفي جميع الأحوال فإن خلخلة المرجعيات وما يطرأ على المعيار العام السائد من تحوّلات لا تؤدي إلى الغياب النهائي لما تخلخل أو تحوّل، بل تخرجهما من المركز، ليلتحقا بهامش يزداد اتساعا، ولا يندر أن تتعايش في نسق ثقافي بعينه منظومة متنوعة ومتنافرة من المرجعيات والمعايير (كما يحدث في العالمين العربي والإسلامي، وفي مناطق أخرى من العالم).
ولا يندر، أيضا، أن يتجدد الصراع على مركز النسق الثقافي بين مرجعيات ومعايير اعتُبرت لفترة من الوقت على الهامش، لكنها عادت إلى مركز الصدارة في ظل أزمات كبرى من نوع الحروب والانقلابات السياسية والثقافية الراديكالية، أو الأزمات الاجتماعية الحادة.
في كلمة واحدة: المرجعيات والمعايير هي ما يتوّسط بين الكائن الإنساني والكون، وما ينظم علاقته بنفسه وبالآخرين، بالمعنى الروحي والوجودي والاجتماعي والسياسي. بهذا المعنى عاشت مختلف شعوب الأرض، على امتداد تاريخها حداثات مختلفة ومتنوّعة.
بيد أن هذا الفهم سيظل منقوصا ما لم يصل الكلام إلى الحداثة الأوروبية، التي بدأت مع اكتشاف أميركا، وجرى تعميمها وفرضها على العالم غير الأوروبي في سياق التوّسع وحروب الفتح الكولونيالية الأوروبية. إن مصادر وجغرافيا وتواريخ هذه الحداثة، بالذات، هي ما يشحن كل كلام عن الحداثة في المستعمرات السابقة، بمشاعر ومشاحنات وثارات، تكفي لوضعها في قفص الاتهام لأسباب منطقية أحيانا، وكذريعة لعودة مرجعيات ومعايير بالية إلى مركز الصدارة في أحيان أخرى.
وفي هذا السياق، بالتحديد، فإنني أتبنى وجهة النظر التي صاغها إدوارد سعيد في كتابيه “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”. ووجهة النظر هذه تتلّخص في ثلاثة أمور: أولا، الإمبريالية خلقت تاريخا كونيا، لذا أصبحت التواريخ المحلية جزءا من التاريخ الإنساني العام، بصرف النظر عمّا رافق حروب الفتح الكولونيالي من شرور وآثام. وثانيا، أصبحت الهويات في عالم ما بعد الكولونيالية تعددية وفقدت الجوهرانيات القومية والعرقية مركزيتها. وثالثا، أصبحت المعرفة ميراثا مشتركا لبني البشر.
إن هذا الميراث المشترك، بالتحديد، هو ما يثير حفيظة الجوهرانيات الدينية والقومية والعرقية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بنقد المرجعيات والمعايير، فمن المستحيل في الوقت الراهن تحقيق نتائج يعتد بها دون الاستعانة بمفاهيم وأدوات العلوم الإنسانية الحديثة.
-3-
كلما وردت كلمة الثقافة في هذه الورقة، فإن المقصود الثقافة العالِمة: الثقافة النصية، أو الكتابية. وهذا التحديد يعفينا من الاستفاضة في تعريف مفهوم الثقافة، ويحصر الموضوع ضمن حدود يسهل تعريفها والتعرّف عليها. وهذه النقطة توصلنا إلى طرح ثالث الأسئلة: هل نملك القدرة على تعيين التجليات الكتابية أو النصية، والحكم لها أو عليها، إذا فصلناها عن خلفياتها الاجتماعية والسياسية؟
السؤال في صيغة أخرى: لا نستطيع الكلام عن الثقافة الفلسطينية قبل العام 1948 دون التوّقف أمام الحرب العالمية الأولى، وهي الحدث الحاسم في تاريخ فلسطين الحديث. وبالمناسبة في تاريخ العالم، أيضا. فعالم القرن العشرين نجم عن انهيار إمبراطورتين هما العثمانية وإمبراطورية آل هابسبورغ.
وبقدر ما يعنينا الأمر فإن وقوع فلسطين تحت قبضة الاحتلال البريطاني، الذي يمكن وصفه بطرق مختلفة، يطرح حقائق يصعب تجاهلها: أولا، انتهاء فلسطين العثمانية، وثانيا بحث الفلسطينيين عن هوية خاصة، فلم يقلقهم قبل سقوط الإمبراطورية أن يكونوا عربا وعثمانيين، كما كانت سوريا الطبيعية حاضنتهم التاريخية والثقافية والسياسية، وبهذا المعنى كانوا سوريين، أيضا. ومن قبيل المبالغة القول إنهم كانوا فلسطينيين بالطريقة التي نعرفها عن أنفسنا في الوقت الحاضر.
بيد أن الاحتلال يستدعي الكلام عن أشياء أخرى من نوع الحداثة الكولونيالية: الإدارة المركزية، وبيروقراطية الدولة، والتعليم والصحة والمواصلات. الكلام عن الحداثة الكولونيالية مكروه في المستعمرات. وفي الوقت الحاضر تجري محاولات لاستعادة تاريخ فلسطين العثمانية للتدليل على أن الحداثة في فلسطين بدأت في العهد العثماني. وهنا أود التنويه بجهود سليم تماري التي أثمرت في نشر يوميات خليل السكاكيني، ناهيك عن كتابه “عام الجراد”، وبدراسة عادل منّاع حول تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني، الذي يتموضع فيها الكلام عن الحداثة وعن نشوء الهوية الفلسطينية في سياقه التاريخي الصحيح.
كانت ثمة حداثة عثمانية بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبالتالي لم تأت الحداثة إلى فلسطين في ركاب الاحتلال البريطاني. الحداثة الكولونيالية بدأت في وقت مبكّر مع الإرساليات التبشيرية بعد حملة إبراهيم باشا، واستمرت في عهد الاحتلال البريطاني. ولا يمكن في هذا السياق إغفال التحدي الذي طرحه التغلغل الاستيطاني الصهيوني على الفلسطينيين، والذي استنفر بدوره ردود فعل “حداثية” في جوانب معيّنة.
وعلى صعيد آخر، إذ كنّا لا نستطيع الكلام عن حداثة في فلسطين دون التطرّق إلى الحرب العالمية الأولى، فإننا لا نستطيع الكلام، أيضا، دون أن نضع في الحسبان حقيقة أن حداثة فلسطين كانت جزءا من تطوّرات وتحوّلات الزمن الذي وصفه ألبرت حوراني بالعصر الليبرالي، والذي انتهى في أواسط القرن العشرين. كانت فلسطين جزءا من جغرافيا العصر الليبرالي العربي، وتأثرت بحداثات دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت.
لذلك، لن نتمكن من الكلام عن حداثة في فلسطين دون وضعها في السياق الثقافي والتاريخي والسياسي للعالم العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى أواسط القرن العشرين.
بمعنى آخر، ثمة مكوّنات عثمانية ومصرية وسورية وعراقية ولبنانية في حداثة فلسطين الأدبية والسياسية والفنية والفكرية قبل النكبة، إلى جانب المكوّنات الغربية: الروسية والفرنسية والبريطانية. عدم وجود الدراسات الكافية في هذا الصدد لا يبرر تجاهل الموضوع.
-4-
أخيرا، أعتقد أن ثمة ضرورة للكلام عن المصادر، أي عن مراجع التاريخ الثقافي للفلسطينيين قبل العام 1948. إن كتاب “حياة الأدب الفلسطيني”، المنشور قبل عقود أصبحت طويلة ما يزال من المراجع الرئيسة.
وهذا الكتاب، على أهميته يعاني من نواقص كثيرة، منها افتقاره إلى المنهج، وميله إلى التقريظـ، وفشله في إقامة الصلة بين الظاهرة الأدبية المحلية ومحيطها العربي الكبير، وقد كُتب على غرار أدبيات السردية البطولية، التي غالبا ما تتجاهل محدودية النفوذ الذي مارسه روّاد “النهضة”، وتتجاهل طبيعة الرهانات الاجتماعية والطبقية الكامنة وراء الظواهر الأدبية. أما بقية المراجع فتقتصر على شخصيات بعينها، ولا ترسم صورة شاملة للمشهد الثقافي قبل النكبة، ناهيك عن حقيقة أن البحث عن تجليات “للحداثة” ليس من همومها الرئيسة.
ومن المؤسف أن مركز الأبحاث الفلسطيني قد اختفى من الوجود منذ سنوات طويلة، والكثير من منشوراته يحتاج إلى تحديث. وما تزال مؤسسة الدراسات الفلسطينية المؤسسة البحثية الوحيدة المعنية بتاريخ فلسطين بطريقة منهجية ومهنية. كما أن المراجع القليلة حول تاريخ فلسطين نادرا ما تستفيض في معالجة الجوانب الثقافية.
لدينا في هذا الصدد كتاب رشيد الخالدي عن الهوية الفلسطينية، ويمكن توظيف ما فيه من معلومات غزيرة في إعادة تكوين المشهد الثقافي قبل النكبة، لكنه يظل كتابا في التاريخ لا في تاريخ الثقافة. وهذا يصدق، أيضا، على دراسات عادل حسن غنيم، وعبد الوهاب الكيالي، وبيان نوهيض الحوت، التي تندرج تحت عنوان عريض اسمه التاريخ السياسي للفلسطينيين.
هل يكون في عقد مؤتمر لفكر “الحداثة” في فلسطين، بصرف النظر عن مخاوف وهموم الحاضر، وربما بفضلها، ما يحرّض على الدعوة إلى كتابة التاريخ الثقافي للفلسطينيين قبل النكبة. هذا سؤال مفتوح..!!
موجز لمداخلة في مؤتمر فكر الحداثة في فلسطين، الذي نظمته جامعة القدس ومركز الديمقراطية وتنمية المجتمع في رام الله، يوم الخميس الماضي 28/10/2010