بعد عشرين سنة على اجتياح الكويت وربما الاصح غزو صدام للكويت، يشعر العراق كما تشعر الكويت بالكثير من الإنهاك. لكل انهاك اسبابه، اذ يعود في كلا البلدين في جانب منه لما وقع عام ١٩٩٠. لقد ارهقت تلك التجربة الاليمة البلدين وما زالت تساهم في ذلك بعد مرور عشرين سنة. وهذا يعود ويؤكد لنا ان لا احد يستطيع ان يهرب من التاريخ وأحداثه، فما يقع من حروب واقتتال يغير احوال المجتمعات والناس بما يتجاوز الزمان والمكان. قبل عام ١٩٩٠ بدت الكويت وكأنها الطريق الذي يحقق عبره صدام حسين المجد الذي يحلم به. بل بدت اكثر، وكأنها ذلك السراب الذي اوهمه بإمكانية تعويضه كل خسائر الحرب العراقية – الايرانية. ذلك السراب اختفى بأسرع من المتوقع. وفي مرحلة لاحقة، تغيرت الادوار وكأننا في لعبة كراسي لا تهدأ ولا تتوقف، وبدا صدام حسين بشخصه والعراق بنظامه وجغرافيته ونفطه وكأنه طريق الولايات المتحدة وطريق يمينها المحافظ لتحقيق طموحات الحفاظ على الامبراطورية الاميركية وقوتها العالمية بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). في اليوم الاول من هذه الدراما العربية في عام ١٩٩٠ حلم صدام بإمبراطورية كبرى من خلال الكويت، وفي اليوم الثاني من هذه الدراما عام ٢٠٠٣ حلمت الولايات المتحدة حلماً لن يتحقق. لقد خسر صدام حسين عام ١٩٩٠ ثم عام ٢٠٠٣ لكن الولايات المتحدة هي الاخرى حققت مكاسب مهمة عام ١٩٩١ لكنها لم تكسب عام ٢٠٠٣، اذ تبدد هجومها الى معارك استنزاف ولم يبق من انتصارها الا الأقل. ففي الشرق الاوسط تتحول الحروب سراباً، وكل حرب تمهد للتي تليها. ليس في الشرق من منتصرين دائمين، فكم من انتصار تحول مع الوقت الى نقيضه.
ان ما وقع عام ١٩٩٠ دمر الكويت اقتصادياً وانسانياً كما انه دمر العراق بسبب حرب تحرير الكويت ثم بسبب العقوبات الطويلة المرتبطة بها. وبينما انتقل من الكويت بسبب صدام وغزوه ثم بسبب رد الفعل الكويتي بعد تحرير الكويت والمرتبطة بموقف منظمة التحرير آنذاك زهاء نصف مليون فلسطيني كانوا يمثلون عصب رئيسي للحياة الاقتصادية والادارية والثقافية للكويت، ما أضعف بنية الكويت على مستويات كثيرة، نجد في المقابل ان العراق فقد ابان عام ١٩٩٠ ثم في السنوات المقبلة كل قدرته على جذب القدرات العربية والعالمية ورؤوس الاموال والخبرات وسط عزلة خانقة وهجرة كفاءات.
لقد بدأت الكويت أعمال اعادة البناء واعادة البلاد الى سابق عهدها عام ١٩٩١، لكن المعوقات الادارية والسياسية والهاجس الامني الذي سيطر على البلاد ساهم هو الآخر في وضع حدود للكفاءة والتنمية. لهذا تعطل مشروع التنمية في الكويت طوال عقد التسعينات من القرن الماضي، مما ساهم في نمو متسارع لقوى المعارضة والاحتجاح في البرلمان وخارجه. فقد سيطر شعور سلبي بين الكثير من مواطني الكويت مصدره عدم قدرة الكويت على استعادة تلك الحقبة الذهبية التي ميزتها في السبعينات والثمانينات وقبل عام ١٩٩٠. هكذا ارتفعت الاصوات محمّلة الحكومة ورؤساء الوزارات والوزراء مسؤولية التردي. ويمكن القول إن المأزق السياسي اليوم في الكويت يعود في شكل من الاشكال الى ما وقع عام ١٩٩٠ من اقتلاع للنظام بواسطة الاجتياح المفاجئ، ثم من عودة للنظام في ظل تمسك المجتمع بشرعيته وفي ظل الحرب التي هزمت النظام العراقي عام ١٩٩١، ثم ارتفاع وتيرة المساءلة بين المواطنين والبرلمانيين بفضل طبيعة التحديات التي برزت بعد عام ١٩٩١، ثم صعوبة استعادة قدرات الكويت التنموية والمتقدمة كما كانت في الزمن الذهبي، ويتم كل ذلك في ظل بروز اجيال كويتية جديدة تحمل هموماً جديدة وتصورات مختلفة.
اما في العراق فبعد حرب تغير النظام العراقي عام ٢٠٠٣، انتهى الامر بحرب اهلية وصراع كبير بين القوى الرئيسية السياسية والطائفية والقومية العراقية، وارتفعت الحدة في الصراع الداخلي كما ارتفعت الحدة في الصراع مع الولايات المتحدة، كما ارتفعت حدة التدخلات الاقليمية الايرانية والسورية والسعودية بالاضافة الى الاميركية. لا يزال العراق يبحث عن نفسه وسط ضياع كبير ويتصارع على تركيبته الداخلية من دون ان ينجح في الارتقاء الى صيغة مقبولة. ولا تزال الكويت، حتى يومنا هذا، تسعى نحو التنمية من دون ان تحققها بالصيغة التي تعلن انها تريدها.
اليوم يقف كل من العراق والكويت في وجه الآخر، هذه المرة ليس من اجل الحرب او الاجتياح، فكل من الكويت والعراق يمثل اليوم مرآة لما وقع عام ١٩٩٠. كلا البلدين يحاول التعامل مع تبعات التاريخ والبحث عن المستقبل. ومع ذلك فالماضي يسهل اجتراره عبر الشكوك والمخاوف والمشاعر التي يثيرها. لكن، من جهة اخرى، معظم الذين يعيشون اليوم في البلدين كانوا عام ١٩٩٠ اطفالاً او لم تلدهم امهاتهم بعد، ومع ذلك ما زالت الآثار غير المرئية والأصح النفسية لما وقع عام ١٩٩٠ قائمة في كلا البلدين.
ان اكثر ما يفصل بين البلدين هو الثقافة الشعبية. فهناك ثقافة في العراق تشكك بالكويت وحقوقها السيادية تقابلها في الكويت ثقافة شك وعدم ثقة في العراق ونياته. الثقافة هي المشكلة الاكبر التي قد يؤسس عليها السياسيون في المستقبل قرارات ومواقف وانتهاكات، فهي السبب الذي يجعل الموقف من الكويت والحدود والتعويضات تتحول الى موضوع سياسي في حملة انتخابية في العراق. هكذا يتم اقحام الممر المائي والترسيم والتعويضات بين البلدين في سوق للتنافس السياسي العراقي – العراقي. ويحصل ذلك في الكويت ايضاً، اذ تتحول قضية التعويضات وإسقاط الديون العراقية الى مشكلة داخلية حكومية برلمانية. ووفق زهير الدجيلي، الصحافي العراقي، «فإن المسألة الثقافية وطبيعة النظرة الشعبية المنتشرة في العراق والكويت هي رافد رئيس للخلافات. المشكلة في الثقافة الاوسع أكانت ثقافة اعتبار الكويت او أجزاء منها جزءاً من العراق او ثقافة الشك والتخوف في الكويت».
ويسجل لمصلحة الكويت انها هرعت بسرعة الى العراق بعد تغير النظام العراقي عام ٢٠٠٣ في محاولة لبناء العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية. لكن الحالة الامنية عادت وعكرت الامكانات ودفعت باتجاه هروب الاستثمارات. العراق سيخلق استقراره، فهو لن يبقى في موقع صراع مفتوح كما هو حاله اليوم. كما ويسجل لمصلحة العراق ان نظامه السياسي ممثلاً بحكوماته المختلفة تعاملت بنضج مع الكويت كما تعاملت الكويت بنضج مع الواقع الجديد في العراق.
لكن هناك اموراً معلقة في إمكانها ان تعكر صفو العلاقة بين البلدين. ان مسائل كالديون والتعويضات في امكانها ان تخلق ازمة بين البلدين بخاصة بعد الانسحاب الاميركي من العراق. ايجاد حل متوازن وتنموي شرط اساسي لحل هذه القضايا المعلقة. وبينما لا يزال العراق يفكر باتجاه البحر والمنفذ المائي وتوسعة مينائه، الا انه لا توجد مشكلة مهما بلغت جديتها لا يمكن حلها حلاً تعاونياً بخاصة اذا توافرت النيات الايجابية. فالسعي الاقتصادي لا تحده حدود. نتساءل عن امكان بناء مناطق حرة بين العراق والكويت تسمح للعراق بحل مشكلته المائية بما يتناسب واحتياجات البلدين. المناطق الحرة بهدف التجارة والاقتصاد امر انتشر بين دول العالم، سيكون هذا افقاً مفيداً لكلتا الدولتين.
يبقى السؤال بعد مرور عشرين سنة على واحدة من اسوأ كوارث العرب، هل في امكان كل من الكويت والعراق الاتفاق على ما يساهم في بدايات جديدة لبناء مصالح اقتصادية وتجارية وإنسانية بين البلدين ام يترك الامر للامم المتحدة والفصل السابع ومجلس الامن ليحله؟ ولكن ماذا بعد ان يخرج العراق من الفصل السابع وبعد ان تنسحب الولايات المتحدة، هل تتغير المواقف ويعود العراق طارحاً ان ظروفاً قاهرة هي التي فرضت عليه القبول بما يقبل به؟ على الاغلب سيسعى العراق في المرحلة اللاحقة لتعديل الاتفاق على الحدود والتعويضات وإن استطاع غيرها من المسائل بين البلدين. لن يكون هذا صراع وجود بين البلدين، بل في اسوأ حالاته صراع حدود وتعويضات وآثار الماضي. السؤال الاكبر: هل تستبق الدولتان تغير الظروف فتقع بينهما مبادرة تحقق تقدماً قابلاً للصمود والبقاء بعد ان تتغير الظروف؟ هل في إمكان خطوة الألف ميل بين البلدين ان تبدأ بخطوة استراتيجية تسجل كإنجاز للقادة السياسيين في البلدين في المدى المنظور؟ هل يمكن تحقيق ذلك على رغم الازمة التي يعيشها العراق على المستوى السياسي والامني وعلى رغم الازمة التي تعيشها الكويت على المستوى التنموي والسياسي؟
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.
العراق والكويت: عقدان على كارثة الحرب والاجتياح (من كان يعبد محمدا , فاءن محمدا قد مات .. ومن كان يعبد الله فاءن الله حي لا يموت) .. ومن كان له رأي (سياسي) بصدام حسين فان صدام قد مات (بشرف , شهيدا من شهداء الامة , في اعلى عليين) , ومن كان على عينه غشاوة , فاءن (العراق : العريق باسلامه وعروبته) كان وما زال وسيبقى على قمة العالم (حضاريا وتاريخيا وانسانيا) ولو كره “المتلفزون” . قبل “الحرب الايرانية – العراقية” ابتدأت (التلفزة) فعندما كان العالم يشاهد و(يتتلفز) بالصور القادمة من السفارة الامريكية في طهران , كانت (التلفزة) تحجب استيلاء نخبة… قراءة المزيد ..