فترة ما يعرف بالحرب الأهلية، يقال أنه كان هنالك فئتان: الأولى تطلق على نفسها “الوطنية”، وأخرى يُطلق عليها لقب “الإنعزالية”. من قال عنها هكذا هو من قال عن نفسه “وطني”، في معرض المديح الذاتي، في حرب معظمها كانت بين أبناء الوطن الواحد.
انتهت الحرب منذ زمن. أتت لحظة “14 آذار” 2005. اختفت كل التعاريف التي كانت سائدة على وقع شعار واحد موحد: “حرية، سيادة، إستقلال”. القلّة التي لم تدخل معركة استقلال لبنان الثاني، نأت بنفسها لوقت قصير عن كل شيء. شاهدت، واستعدت جيداً للمعركة المضادة. قوى الاستقلال “نامت” على انتصارات محدودة. لم تدرك أن الأبواب تُشرّع مرّة واحدة. والتغيير إما أن يكون جذرياً، أو لا يكون.
انتهت مرحلة “الاستقلال” على مكاسب محدودة وهزائم “موصوفة”.
عاد بعض قوى “14 آذار” إلى واقعيته، بحسب تعريفه هو لـ”الواقعية”. اكتشف أن من كان ينادي بـ”الاستقلال” وبـ”لبنان أولاً”، هو من كان يطلَق عليه صفة “الانعزال”. ليس بغريب أن يعود المرء إلى تاريخه كما يقال. بل من المعيب أن يتخلّى عن هذا “التاريخ”. في لبنان، كل الطبقة السياسية تاريخها مشرق ومشرّف. هكذا يخاطبون بعضهم البعض.
مغزى هذه الاستعادة لبعض الوقائع “الماضية”، وتفسير بعض المفاهيم المتعارف عليها، هو تفنيد وتبيان ما يحصل اليوم على الساحة السياسية.
قبل أشهر، نُظِّمت حملة سياسية مبرمجة على ما سُمّي “الاتفاقية الأميركية”. سيقت الاتهامات بالتحريض على “المقاومة” وبِرَهن البلد، و”تشريع الأبواب أمام الأعداء”. انتهت الحملة بغموض فرضته “إدارة” 8 آذار الخاطئة لهذه الحملة.
توازياً، كان هناك من يشتم سفراء دول أوروبية وغربية، على اعتبار أن هؤلاء يحملون في جعبتهم مشروع “تفتيت لبنان”، إفساحاً في المجال أمام تنفيذ الجزء الأوّل من مشروع الشرق الأوسط الكبير، مشروع “كوندي رايس”، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، التي كان على من يتجرأ ويصافحها، أن يتحمّل تهمة العمالة، في أي موقع كان.
كثيرة هي الأحداث المشابهة. هبات قدمت إلى جمعيات ومؤسسات لبنانية عن طريق السفارة الأميركية، أو بالأحرى من طريق “الوكالة الأميركية للتنمية”. خرج بعضهم ليطالب بكشف كل المستفيدين من هذه الهبات. لأن السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان هو من كان يقدمها بحسب هؤلاء، وهو ـ أي فيلتمان ـ دعم معركة الاستقلال، و”محاسبته” يجب أن تكون بالتزامن مع عملية “الانتقام” المنسقة ضد كل “صقور” المرحلة السابقة.
ومن واشنطن إلى باريس. اعتراض “8 آذاري” على اتفاق تعاون أمني بين لبنان وفرنسا. هو نفسه هذا الاتفاق وافق عليه الجميع على طاولة مجلس الوزراء. الرسالة واضحة، والعودة إلى أيام سبقت وما تعرّضت له الكتيبة الفرنسية في “اليونيفيل” من “تحرشات” يكفي للقول أن 8 آذار، و”حزب الله” تحديداً، لا يريد، بل يصرّ على إبعاد لبنان عن الشرعية الدوليّة، التي لا يعترف بها أصلاً.
المحسوم أن “الانعزاليين” هم اليوم مع الدولة ومؤسساتها، مع “لبنان أوّلاً”، بعيداً عن أي أجندات إقليمية كانت أم دولية. وهذا الانعزال هو نفسه الذي يريد علاقات “صحيحة” مع الشقيقة سوريا، وهو نفسه أيضاً من يريد أن يستظلّ بالشرعية الدولية فقط لا غير.
رب سائل، أين هو الإنعزال؟ أو رب هناك قائل: “تعالوا ننعزل” لحماية لبنان والحؤول دون جعله ساحة أو صندوقة بريد.
ayman.sharrouf@gmail.com
* كاتب لبناني- بيروت