حسب معلومات خاصة بـ”الشفّاف” من العاصمة الفرنسية، فإن فتح ملفّ صفقة الغوّاصات الفرنسية مع باكستان، وعملية كراتشي (2001) التي أسفرت عن مقتل 14 شخصاً بينهم 11 فرنسياً، ليس مجرّد صدفة. بل إن فتح هذا الملفّ، من صفحات جريدة “ليبراسيون” الأقرب إلى اليسار، لا يعود إلى الدعوى القضائية التي رفعها أهالي الضحايا الفرنسيون الـ11 مطالبين بكشف الحقيقة وبمعرفة سبب مقتل أبنائهم بعد أن كشف أحد القضاة إستبعاد فرضية العملية الإرهابية الإسلامية واحتمال أن تكون العملية إنتقاماً مالياً بسبب عدم وصول عمولات كان متّفقاً عليها مع جهات نافذة في باكستان.
فحسب معلومات مصادر خاصة في باريس، فإن المقصود بفتح هذا الملفّ هو الرئيس الفرنسي الحالي.. نيقولا ساركوزي بالذات! وذلك قبل سنتين من موعد الإنتخابات الرئاسية المقبلة. والأرجح أن المستفيد من فتح هذا الملفّ هو رئيس الحكومة السابق “دومينيك دو فيلبان”، الذي انتهت محاكمته قبل أسابيع بتبرئته من تهمة المشاركة في تزوير وثائق تطال نيقولا ساركوزي، قبل أن تقرّر النيابة العامة إستئناف الحكم.. والترجيحات هي أن “دومينيك دو فيلبان”، الذي يُحظى بدعم جاك شيراك، سوف يترشّح للمنصب الرئاسي ضد نيقولا ساركوزي بعد سنتين.
طبعاً، هذا يطرح إحتمالاً قوياً جداً في أن يكون “دومينيك دو فيلبان” نفسه هو “المصدر” الذي سرّب الوثائق التي تدين “بالادور” في الظاهر، ولكن تطال “نيقولا ساركوزي” بالدرجة الأولى! لماذا “دو فيلبان”؟ لأن رئيس الحكومة السابق كان قادراً، بحكم موقعه، على الإطلاع على كل المستندات والوثائق والعقود التي يمكن إستخدامها لاحقاً (أي الآن) ضد غريمه ساركوزي.
كيف ستتطوّر هذه القضية؟
حسب معلوماتنا، فإن فتح ملفّ صفقة الغوّاصات مع باكستان (الذي اكتسب قيمة عاطفية بعد مقتل 11 فرنسياً ربما بسبب قطع “العمولات” عن “مستحقّيها”..) قد يكون الصفحة الأولى في ملفّ أكبر يطال التمويل السياسي والإنتخابي في منتصف التسعينات الناجم عن صفقات مع دول أخرى غير باكستان، وتحديداً مع دولتين عربيّتين هما السعودية والكويت.
وفي هذه الحالة، سيُفتح ملفّ صفقات معدات عسكرية “بحرية” اشترتها السعودية والكويت من فرنسا. وإذا فُتِحَت هذه الملفّات، فإن أسماء لبنانية وعربية أخرى ستُنشَر على صفحات الصحف الفرنسية. إن أسماء هؤلاء “الوسطاء” العرب الآخرين معروفة على نطاقٍ واسع في الأوساط المعنية بفرنسا.
ما علاقة نيقولا ساركوزي بعمولات ناجمة عن صفقات عسكرية مع باكستان، علماً أنه لم يكن وزيراً للدفاع في منتصف التسعينات؟
العلاقة أكثر من وثيقة. فحتى العام 2000، حينما سنّت فرنسا قانوناً لمنع “الفساد” (أي “الرشاوى” في بلدان العالم الثالث خصوصاً)، كان “الفساد” نظاماً معمولاً به ومقبولاً بصورة رسمية في الإدارة الفرنسية. فكانت الشركات الفرنسية، الحكومية أو الخاصة، التي ترغب في دفع “رشاوى” لمسوؤلين أو وسطاء أجانب تتقدّم بـ”طلب رسمي” إلى وزارة المال تعرض فيه ما ستدفع من “عمولات”. وبعد الحصول على موافقة الوزارة، أي حتماً “الوزير” في عمليات ضخمة تشمل مئات الملايين من الفرنكات الفرنسية، فإن الشركات كانت تدفع “العمولات” وتقتطعها من أرباحها الخاضعة للضرائب
يعني ذلك أن وزير المال في حينه، نيقولا ساركوزي، ، الذي كان الناطق بلسان حملة بالادور الإنتخابية وأبرز أعوان بالادور، هو الذي وافق “رسمياً” على عمولات الصفقة الباكستانية، وهو الذي وافق- وهنا بيت القصيد- على عمولة إضافية “غير مبرّرة” بقيمة 4 بالمئة من قيمة عقد الغواصات الباكستانية، وهذا إضافة إلى العمولة الأساسية التي فاقت 6 بالمئة التي يمكن إعتبارها “مبرّرة” لأنها سمحت بشراء ذِمَم مسؤولين كبار في الدولة الباكستانية.
ولمزيد من التوضيح، فعمولة الـ4 بالمئة الإضافية جاءت بعد (وليس قبل) انتهاء المفاوضات مع باكستان، وبعد حصول شركة “دي سي إن” الفرنسية على عقد الغوّاصات. ومع ذلك، فرضت حكومة بالادور، ووزير الدفاع في حينه فرنسوا ليوتار (الذي كان من أبرز مؤيدي ترشيح بالادور للرئاسة ضد شيراك، مثله مثل الرئيس الحالي نيقولا ساركوزي) على شركة “دي سي إن” دفع عمولة 4 بالمئة من قيمة الصفقة الإجمالية لـ”وسيطين لبنانيين” مقابل عمل لم يقوما به!! لماذا؟ ربما لكي يقوم “الوسيطان اللبنانيان” بإعادة معظم المبلغ إلى شخصيات فرنسية تعمل في إطار تمويل حملة بالادور الإنتخابية!
في ما يلي مقال جريدة “ليبراسيون” الذي فتح ملف عملية كراتشي الإرهابية وعلاقتها بتوقّف دفع العمولات للوسطاء الباكستانيين. والمقال يفتح كذلك، في ما يبدو، معركة الرئاسة الفرنسية المقبلة بعد سنتين.
*
مقال “ليبراسيون”: العمولات المشبوهة لشبكة بالادور
هل استفادت حملة إدوار بالادور الرئاسية في العام 1995 من تمويلات غير شرعية بفضل عقد الغوّاصات التي وافقت فرنسا على بيعها لباكستان؟ منذ شهر فبراير، وعلى هامش قضية عملية كراتشي الإرهابية التي سقط ضحيتها 11 فنّي فرنسي في العام 2002، فإن “قسم التحقيقات المالية” يُجري تحقيقاً أوّلياً حول شبهات فساد سياسي، مع أنه لم يظهر حتى الآن أي دليل مادي على صحة هذه الفرضية. ولكن وثائق غير منشورة حصلت عليها “ليبراسيون” تُبيّن أن “وسيطين” فرضهما البالادوريون قبضوا 54 مليون فرنك فرنسي على الأقل. وتم قبض المبلغ في 2 حزيران/يونيو 2005، في إطار إتفاقية تنصّ على دفع مبلغ إجمالي قدره 216 مليون فرنك مقسّطة على 12 شهراً. إن مبلغ 54 مليون فرنك يمكن أن يكون قد استُخدِم لإعادة دفع عمولات غير شرعية (في فرنسا) مع أن “الوسيطين” لم يلعبا أي دور في المفاوضات التجارية التي أسفرت عن بيع الغوّاصات. علاوة على ذلك، فإن “ليبراسيون” تملك إثباتاً بأن الحساب المصرفي لحملة بالادور الإنتخابية تلقّى مبلغاً نقدياً مشبوهاً بقيمة 10 مليون فرنك. وقد حدث ذلك في حين كان (الرئيس الحالي) نيقولا ساركوزي ناطقاً بلسان رئيس الحكومة الأسبق، ووزيراً للمالية.
“علاوة” أضيفت إلى العمولات المتّفق عليها
بغية تتبّع آثار هذه الدفعات، فقد قمنا بمقارنة الوثائق السرية، وخصوصاً عقد بيع الغوّاصات المؤلّف من 197 صفحة- والذي تملك هذه الجريدة نسخة كاملة منه مع أن القضاء الفرنسي ما يزال يطالب السلطات بتسليمه نسخة منه! وقد تبيّن لنا أنه حينما أُبلغت “مديرية الإنشاءات البحرية” (“دي سي إن”)، التي تخضع لوصاية وزير الدفاع مباشرةً، أنها فازت بعقد مع باكستان بقيمة 41،5 مليار فرنك فرنسي، فقد تعهّدت بدفع مبلغ 338 مليون فرنك كـ”عمولات”. أي 25،6 بالمئة من قيمة العقد، ولصالح “وسطاء محليين” (باكستانيين) أتاحوا للشركة الفرنسية الفوز بالعقد. وقد أكّد هذا السيناريو مسؤول حكومي كبير في شؤون التسلح هو “هنري غيته” (Henri Guittet) في إفادة أمام القاضي “مارك تريفيديك” (Marc Trévidic) في 9 أبريل. هذا من حيث المبدأ. ولكن، وبدون مبرّرات جدّية، فقد تلقّى مسؤولو “دي سي إن” أمراً من السلطة السياسية في حينه بالتفاوض مع وسيطين جديدين وبتأمين “علاوة” على العمولات المقررة بقيمة 4 بالمئة من قيمة العقد (أي 216 مليون فرنك)، وهذه “العلاوة” هي التي تثير اليوم الشكوك بأن المقصود منها كان إقتطاع قسم منها لأغراض سياسية غير شرعية.
زياد تقي الدين وعبد الرحمن الأسير
وقد أفاد المدير المالي لشركة “دي سي إن إن” الحكومية (شركة مالية تابعة لـ”دي سي إن”)، في فترة 1992-2002، “جيرار ميناياس” (Gérard Menayas)، في إفادة أمام القاضي “مارك تريفيديك” أنه “بدون جدال، فإن السلطة السياسية هي التي فرضت علينا كلاً من زياد تقي الين وعبد الرحمن الأسير”. وهذه الرواية يؤكّدها أحد مسؤولي “دي سي إن”، “إيمانويل أريس”(Emmanuel Aris) ، الذي يقول: “طلب مني السيد كاستلان Castellan (مدير عام “دي سي إن” في حينه) أن أقوم بزيارة لزياد تقي الدين. وكان المدير العام قد تعرّف إلى زياد تقي الدين بواسطة “دونوديو دو فابر”(Donnedieu de Vabres) ، الذي كان مسؤولاً في ديوان “فرنسوا ليوتار” الذي كان وزيراً للدفاع في حكومة بالادور. وحسب ما قاله لي المدير العام السيد كاستلان فإن السلطات الفرنسية هي التي أعطته إسم زياد تقي الدين”.
بناءً عليه، شرع زياد تقي الدين وعبد الرحمن الأسير بمفاوضات شاقة مع “دي سي إن”. وقد طالبا بدفع كامل مبلغ 216 مليون فرنك في موعد لا يتجاوز يناير 2005. وكان هذا الطلب غريباً جداً، وغير مقبول، لأن دفع العمولات يتم عادةً على مدى عدة سنوات، وبنسبة تقدّم الورشة ودفعات المشتري للشركة المورِّدة (كان الإتفاق الفرنسي مع الباكستانيين ينصّ على 126 دفعة شهرية). وأسفرت المفاوضات عن إتفاق أبرم في 24 يناير 2005 بين ممثّل لشركة “دي سي إن” الحكومية وشركة “ميركور فينانس” (Mercor Finance)، وهي شركة “أوف شور” تمثّل زياد تقي الدين وعبد الرحمن الأسير، ويقضي بسداد دفعة أولى بقيمة 130 مليون فرنك فور التوقيع، أي بعد أيام من 24 يناير، على أن يتم سداد دفعتين جديدتين قبل 31 ديسمبر 1995، وعلى سداد الدفعة الأخيرة حسب تقدّم أشغال ورشة الغواصات.
ومع ذلك، فإن هذا الجدول الزمني لم يكن مناسباً لرجلي الأعمال اللبنانيين اللذين فرضهما أنصار إدوار بالادور على الشركة الحكومية. فالصورة المنشورة مع هذا المقال، وهي عبارة عن خطاب ورد من “البنك العربي الإسباني”(Banco Arabe Espagnol)، وهو بنك ليبي مركزه في مدريد، تظهر أن الوسيطين اللبنانيين حوّلا إتفاقيتهما مع “دي سي إن” إلى خطاب إعتماد تنازلا عنها للبنك مقابل تحصيل المبلغ في 2 يونيو 2005.
وهذا التاريخ يصادف شهراً واحداً قبل الموعد النهائي الذي يُفترض بالمرشحين لرئاسة الجمهورية أن يقدّموا بحلوله بلاغاً بالحسابات المالية لحملتهم الإنتخابية.
وقد جاء في رسالة “البنك العربي الإسباني” إلى نائب مدير “دي سي إن” أن البنك قد دفع مبلغ 54 مليون فرنك لصالح “ميركور فينانس”، وطالب “دي سي إن” بتعويضه المبلغ الذي دفعه. والواقع أن مبلغ 54 مليون فرنك كان يمثّل مجموع دفعتين مقرّر سدادهما في 31 يوليو وفي 31 ديسمبر 2005. سوى أن هذين التاريخين كانا أبعد مما ينبغي، في ما يبدو، في نظر المصالح التي كان تقي الدين والأسير يمثّلانها….
فساد
تم استدعاء زياد تقي الدين للإدلاء بشهادته أمام قاضي التحقيق في يوم 15 أبريل الماضي، ولكنه نفى كل الشبهات. وكان مسؤولون في “دي سي إن” قد أفادوا في السابق أن الوسيطين اللبنانيين ربما استخدما المبالغ التي حصلا عليه لرشوة رئيسة الحكومة السابقة بنازير بوتو، عبر دفع المبالغ لزوجها علي آصف زرداري، الذي يشغل حالياً منصب رئيس جمهورية باكستان بعد سنوات قضاها في السجن بتهمة الفساد. وقد ثبتت لنا صحّة هذه الوقائع من التحقيق الذي أجريناه في شهر نوفمبر، في كراتشي، حيث عثرنا على وثائق تثبت أن “عبد الرحمن الأسير” دفع لآصف زرداري أموالاً في 1994 و1995. ولكنه لم يدفع لزرداري سوى مبلغ 23 مليون فرنك. والفارق كبير جداً بين مبلغ 23 مليون فرنك لزرداري ومبلغ 184 مليون فرنك الذي قبضه الأسير وتقي الدين في غضون العام 1995.
وبعد ذلك بقليل، في 1996، وبعد انتخاب جاك شيراك رئيساً للجمهورية، فإن مذكرات داخلية في شركة “دي سي إن” تفيد ن الشركة قرّرت عدم دفع نسبة 4 بالمئة المتبقية من عمولة الأسير وتقي الدين خوفاً من أن تصب هذه الأموال في “عمولات ضمن العمولات” لصالح فرقاء فرنسيين….
التوقّف عن دفع عمولات هو المسؤول عن عملية كراتشي الإرهابية في العام 2002؟
عقد أول لبيع غوّاصات لباكستان تم إبرامه في العام 1994، وعمولات تم دفعها على خلفية معركة إنتخابية في فرنسا، وعملية إرهابية، في 8 مايو 2002، ضد باص كان ينقل موظفين يعملون في “دي سي إن” في كراتشي أسفرت عن سقوط 14 قتيلاً بينهم 11 فرنسياً… أن القضاة الفرنسيين في محكمة تمييز باريس المكلفين بالتحقيق في قضية كراتشي قد تخلّيا عن فرضية العملية الإرهابية “الإسلامية” منذ سنة كاملة، وهما الآن يميلان للتركيز على عملية إنتقامية سببها عدم الإيفاء بعمولات مستحقة بموجب عقد بيع الغواصات الذي وقّعته شركة “دي سي إن”. ويركّز القضاة الفرنسيين على شبها حول الدفعات الأولى، التي يُعتقد أن مقرّبين من رئيس الحكومة الأسبق إدوار بالادور تفاوضوا بشأنها وأنه تمّ إيقاف العمل بها منذ 1996.
ولكن القضاة عجزوا عن فهم لماذا انقضت 6 سنوات (بين 1996 و2002) قبل أن تقع عملية كراتشي الإرهابية.
دفعات العمولات توقّفت في العام 2001
ولكن ثمة عناصر في القضية لم يتم التطرّق إليها حتى الآن، ووضعت “ليبراسيون” يدها عليها في باكستان، تظهر أن هنالك دفعة ثانية من عمولات الفساد كانت صناعات السلاح الفرنسية قد وافقت على دفعها، وأن سداد مبالغ هذه الدفعة الثانية قد توقّف في غضون العام 2001، أي في الأشهر التي سبقت عملية كراتشي الإرهابية.
وكانت تلك المكافآت لصالح عدد كبير من الشخصيات الباكستانية التي لعبت أدواراً حاسمة في إبرام عقد 3 غواصات “أغوستا” في العام 1994، وكذلك لإبرام عقدين تابعين آخرين.
أبرمت العقد التابع الأول شركة “طومسون سي إس إف” في العام 1995، وكان موضوعه تزويد الغواصات بنظم “سونار”.
وأبرمت العقد التابع الثاني شركة “أيروسباسيال” في العام 1996، وكان موضوعه تزويد باكستان بنظم “إكزوسيت إس إم-39” (استخدمت الأرجنتين صواريخ “إكزوسيت” لإغراق مدمرة بريطانية في حرب جزر الفولكلاند- “الشفاف”).
إن مصدر هذه المعلومات الجديدة هو شكوى تقدم بها أمام محكمة الإستئناف في كراتشي، في 29 أغسطس 2009 (أي بعد خروج بيرفيز مشرّف من السلطة)، صناعي باكستاني أشرف على عملية دفع الرشاوى بطلب من الفرنسيين. ويطالب هذا الرجل الذي لعب دوراً محورياً، وهو يدعى “أحمد جميل أنصاري” (Ahmad Jamil Ansari) بتعويضات عن الإجراءات غير القانونية التي تعرّض لها وعن الإجراءات الإدارية التي تعرّض لها وسطاء باكستانيون في عقد غواصات “أغوستا” في مطلع العام 2000، أي بعد وصول بيرفيز مشرّف إلى السلطة. فقد عمد بيرفيز مشرّف إلى ضرب الشبكات المالية والعسكرية المتواطئة مع خصومه السياسيين- وخصوصاً منهم بنازير بوتو وعلي زرداري.
6،25 بالمئة عمولات للوسطاء “من الزبّال إلى رئيس الجمهورية..
وفي مقابلة بالهاتف أجريناها معه، أكّد “أحمد جميل أنصاري” وأعطى تفاصيل حول ما تضمّنته الأرشيفات الي قدّمها لمحكمة التمييز في كراتشي إثباتاً لحقوقه. وكشف أن شر كة “سوفما” (Sofma) الفرنسية، التي بات إسمها Sofema لاحقاً، والتي كانت مكلفة بتصدير السلاح الفرنسي، عقدت إتفاقية معه في العام 1992. وكانت مهمته إقناع أصحاب القرارات في باكستان باختيار الغواصات الفرنسية التي تصنعها “دي سي إن” بدلاً من الغواصات الألمانية أو السويدية. وقد اشترك معه شخصان في توزيع الرشاوى على صانعي القرارات الرئيسيين. وهما: “أمير لودي”Aamir Lodhi (شخصية نافذة في باكستان، وشقيق السفيرة السابقة لباكستان في واشنطن)، و”ظافر إقبال”Zafar Iqbal ، وهو عسكري كبير متقاعد يقيم خارج باكستان.
إن كلفة تدخّل الوسطاء الثلاثة كانت محددة بدقّة: 25،6 بالمئة من قيمة عقد غواصات “أغوستا” الذي تم توقيعه ي 21 سبتمبر 1994 في إسلام آباد. أي 338 مليون فرنك، يتم دفعها بشكل مطّرد مع تقدّم ورشة الغوّاصات. وقال منسق العمليات في شركة “دي سي إن” للقاضي “مارك تريفيدك” أن نسبة “25،6 بالمئة هذه كانت حسب ما فهمت لتغطية جميع الوسطاء، من الزبّال.. إلى رئيسة حكومة باكستان، وإلى جميع المسؤولين الآخرين”. ثم أكّد المعلومة نفسها مسؤول العمليات في شركة “سوفما”، “هنري غيته” في شهادة أمام القاضي في 9 أبريل الماضي.
وقد ظهرت أولى المتاعب في العام 1997، بعد وصول نوّاز شريف، خصم بنازير بوتو وآصف زرداري، إلى رئاسة الحكومة. وتركّزت الضغوط على “أحمد جميل أنصاري” وعلى “الأميرال منصور الحق”، الذي كان رئيس أركان سلاح البحر عند توقيع عقد الغوّاصات. وقد تحدث “أنصاري” عن تعرّضه لاعتقال غير قانوني، في حين اضطر “منصور الحق” للإستقالة في العام 1997 بعد اتهامه بتلقي رشاوى. ورغم ذلك كله، فقد واصلت شركة “سوفيما” دفع عمولات معظم الوسطاء الذين سمحوا بإبرام عقود الغواصات والصواريخ.
بيرفيز مشرّف يقلب الطاولة
ولكن إنقلاب الجنرال بيرفيز مشرّف في 12 أكتوبر 1999 أوصل إلى السلطة مجموعة من العسكريين المصممين على التخلص من الشبكات المنافسة بصورة نهائية. وأسّس هؤلاء “مكتب المحاسبة الوطني” (National Accountancy Bureau) كأداة لتطهير خصومهم. واستخدم هذا “المكتب” الحكومي الباكستاني شركة إستخبارات بريطانية خاصة تدعى Broadsheet LLC لتتبّع شبكات الفساد. وفي لندن، اجتمع مراسل “ليبراسيون” مع أحد محقّقي الشركة البريطانية الخاصة. وكشف لنا أنه، ابتداء من يونيو 2000، استخدمت السلطات الباكستانية شركته للعثور على ممتلكات وأصول 300 مواطن باكستاني، بينهم الوسطاء الباكستانيون في صفقات السلاح مع فرنسا.
وأسفرت التحقيقات التي أجرتها سلطات مشرّف في أنحاء العالم عن نتائج باهرة: فتم اعتقال الأميرال منصور الحق في “أوستن” بولاية تكساس في 17 أبريل 2001، وتم تسليمه لباكستان. وقد أقرّ “منصور الحق” بتلقيه رشاوى بقيمة 5،7 مليون دولار، عن دوره في شراء غواصات “أغوستا” وصواريخ “إكزوسيت”، وأعاد المبلغ للخزينة الباكستانية. كما تمت ملاحقة عدد من الضباط الرفيعي الرتب. بالمقابل، فإن “أمير لودي”، الذي يحمل جواز سفر أميركياً، والذي أصدرت “إنتربول” مذكرة توقيف بحقّه بطلب من باكستان في أكتوبر 2001، يعيش في شقة كبيرة في “جادة فوش” في باريس، حيث يُقال أنه يتمتع بحماية الإدارة الفرنسية.
في فرنسا، قانون مكافحة الفساد منذ العام 2000
في هذه الأثناء، أصدرت فرنسا، في 28 سبتمبر 2000، قانوناً يحظر دفع العمولات بأية صورة من الصور. واستعداداً لصدور القانون، قام الصناعيون الفرنسيون بدفع عمولات مسبقة. وقد أكّد مسؤول دائرة النزاعات في شركة “دي سي إن”، “غي روبان” (Guy Robin)- وهو المكلّف بالتنسيق مع شركة “سوفيما”، أمام قاضي قضايا الإرهاب أن “دي سي إن” قامت بدفعات مسبقة فعلاً. ولكن أرشيفات “أحمد جميل أنصاري” في باكستان تبيّن أن شركة “سوفيما” اكتفت بالتوقّف عن الدفع للوسطاء، من غير أن تقترح عليهم دفع أتعابهم مسبقاً (قبل صدور قانون حظر الفساد). وحسب ما ورد في إيميلات تبادلتها “ليبراسيون” مع الوسيط “ظافر إقبال”، فقد أدى هذا التوقّف المفاجئ عن دفع العمولات إلى تبادل رسائل سلبية في غضو العام 2001.
علي بن مسلَّم وتقي الدين والأسير
حسب معلومات جريدة “ليبراسيون”: في العام 1993، كان السعودي “علي بين حسين المسلَّم” مستشاراً للملك فهد بن عبد العزيز ومبعوثاً منه للتفاوض مع فرنسا لشراء 3 فرقاطات حديثة. وكان “المسلَّم” معروفاً من أجهزة الإستخبارات الفرنسية بفضل الدور الأساسي الذي لعبه كوسيط تمويل في قضية “إيران غيت” وكذلك في تمويل “المجاهدين الأفغان” إبان الحرب ضد السوفيات. وقد أقام “المسلّم” في فندق “برانس دو غال”، حيث بدأ يعقد إجتماعات مع مسؤولي الصناعات العسكرية الفرنسية.
وحيث أنه لم يكن يتحدث سوى العربية، فقد استعان برجلي أعمال مقيمين في لندن كان تعرّف عليهما في الجامعة في لبنان، وهما عبد الرحمن الأسير وزياد تقي الدين.
أي أن مهمة الأسير وتقي الدين الرئيسية كانت تسهيل صفقة “صواري” مع السعودية، ولكن يبدو أن حكومة بالادور قد “فرضت” على شركة “دي سي إن” إعتبارهما “وسيطين” في صفقة باكستانية لم يلعبا أي دور في تحقيقها. والهدف، في ما يبدو، هو أن يقبضا 4 بالمئة إضافية على الصفقة الباكستانية بغرض إعادة القسم الأكبر من هذه العمولة إلى فرقاء فرنسيين يعملون ضمن حملة إدوار بالادور الرئاسية.