لعل أكثر المتفائلين لم تكن تداعب خيلاتهم أن ينشط يوما ما تيار ليبرالى فى فى المملكة العربية السعودية يتحرك فى نواحى تسكين المنجز القيمى للحداثة فى المناخ الإجتماعى السعودى، ويتجاوزثقافة إختزال منجزات الحداثة فى الإطار المادى . وكل ذلك بالإحالة إلى إنعدام إى أفق وأفاق لإستيلاد نُخب يلقى على عاتقها (تجيير) خطاب التنوير والإستنارة فى بنية المجتمع السعودى خاصة فى ظل مراوحة ذات الشروط التعليمية والدينية والسياسية والتى وفرت روافع سلبية تحول دون تبيئة خطاب الحداثة والتحديث. ولقد نجحت تلك الشروط وعلى مدار التأريخ (الإجتماسياسوى) للسعودية فى تحييد الوعى ضد طرح هاتيك أسئلة، وضمنيا إغلاق كل المنافذ التى تمكن المواطن السعودى من التغريد خارج سرب الخطاب الإجتماعى والسياسى العام الممعن فى التقليدية.
وخاصة أن ثمة محاولات وإختراقات قد جُربت فى فضاءات عربية أخرى وبشروط فى مستواها الإجتماعى والسياسى تُعتَبَر أحسن حالا من الحالة السعودية، بيد أنها وبتوفر تلك الشروط الداعمة لتسكين خطاب التحديث لم تُصب نجاحات تُذكر وفشلت فى تفكيك بنى الوعى القديم، بل واكتفت فى أحسن الأحوال بلعب دور هامشى فى مُجمل الحراك الإجتماعى والسياسى فى مناخاتها تلك. أو اللجؤ إلى دهاليز الإنتاج النظرى المبتور عن حاجات وإحتياجات المجتمع. ولعل الفشل الذى ضرب تلك النماذج والمحاولات الخجولة المتقطعة يمكن أن يُعزى فى المقام الأول لفشل فى تبيئة الخطاب الأبستمولجى للحداثة عبر ميكنزمات تُراعى خصوصية المناخات الإجتماعية الفقيرة والمتخلفة التى نجح الخطاب الراديكالى الإسلامى فى إحتلال كل مساحاتها وإغلاق كل هوامش المناورة للخطابات الأخرى خاصة إذا كانت تستند على تصورات ضدية لتصورات ذلك الخطاب الراديكالى.
لذا وفى إنعدام إمتلاك (شيفرة) إختراق الواقع الإجتماعى والسياسى فى تلك (المضارب) المسجونة تأريخيا فى (القفص الحديدى) للوعى الإسلامى كان مستنتجا سلفا أن يفشل خطاب التحديث والإستنارة فى هيكلة أنماط الوعى القديم، ولم يكن مستغربا البتة أن يظل ذات الخطاب يراوح مكانه فى خانة الدفاع والتبرير عوضا عن التحرك نقديا لإكتساح بُنى الوعى القديم. وكانت الخلاصة والخواتيم إنحصار دائرة تأثيره فى (“غيتو” إجتماعى ) ضيق هو عبارة عن نُخب فوقية معزولة عن عن مجمل الحراك المجتمعى والسياسى .
قلنا إن حالة الفشل التى لازمت خطاب التحديث على مدار تأريخه فى المنطقة العربية كان يمكن أن يشكل عقبة كؤوداً لأية محاولات أخرى وخاصة فى المجتمع السعودى لخصوصية الفضاء الإجتماعى والسياسى. بيد أنه، ورغم كل ذلك، بدأت التيارات الليبرالية فى السعودية فى تدشين حلقة أخرى من حلقات التحديث على مستوى الداخل السعودى. وفى الذاكرة أن ظاهرة التيارات الإصلاحية التى إنتظمت الخليج فى ثلاثينات القرن المنصرم، إن كان فى الكويت عبر حركة الإحتجاج التى قادها التجار مطالبين من خلالها بتحديد تدخل العائلة المالكة فى الإقتصاد وبضرورة تنظيم طريقة إختيار حاكم البلاد وتأسيس مجلس للشورى، أو من خلال حركة (الأمراء الأحرار) بقيادة الأمير طلال بن عبد العزيز فى خمسينيات القرن المنصرم فى السعودية والتى طالبت بالإصلاح السياسى وإنشاء مجلس شورى بسلطات حقيقة ورغم عدم أستمرار تلك الحركة (حركة الأمراء الاحرار) إلا أنها تعتبر معلماً بارزاً فى تأريخ العمل الإصلاحى فى السعودية والتى شكلت فى ما بعد إحالة تأريخية لا يمكن تجاوزها فى خضم الحديث عن التيارات الليبرالية فى السعودية، خاصة إذا عرفنا أنه فى الأساس يقوم ويستند على تصورات ضدية مما هو مطروح فى المشهد السياسى والإجتماعى فى السعودية.
ورغم ذلك يرى البعض أن بداية تشكل التيار الليبرالى السعودى كانت فى مطلع تسعينيات القرن العشرين إنطلاقا من جامعة الملك سعود فى الرياض من خلال حراك ثقافى تداخل فيه الطرح النقدى والإصلاح الإجتماعى. فى حين يرى البعض الاخر أن جذور الليبرالية السعودية كانت فى مطلع القرن العشرين فى الحجاز وجده وفى مكة المكرمة من خلال كتابات شعرية ونثرية لشعراء مثل محمد حسن عواد وعبد الله عبد الجبار وحمزة شحاتة وعزيز ضياء*. وهذا يلقى الضوء على خصوصية التجربة الليبرالية فى السعودية مقارنة بجهود التحديث فى المنطقة العربية. إذ أنها لم تخرج من فسيفساء الإصلاح الدينى كما هو الحال عند تجربة التحديث فى مصر التى كانت فيها خطوات التحديث وليدة جهود الإصلاح الدينى لبعض مستنيرى الأزهر، وفى المغرب العربى التى إنطلق الجهد التحديثى فيها من منصة تقديم قراءات وتأويلات حديثة للنص الدينى. ومما يميز التيارات الليبرالية فى السعودية كما أسلفنا، أنها إفترعت مداخلها لتسكين التحديث عبر الثقافة والأدب، ومن ثمة فى الأونة الأخيرة إتسعت الدائرة لتشمل دوائر أخرى من النخب الإعلامية والفكرية والناشطين فى مؤسسات المجتمع المدنى، ومن اللافت للنظر أن معظم الذين نشطوا فى تسكين الحداثة الأدبية كانوا تحت مرمى نيران رجال المؤسسة الدينية التقليدية فى السعودية ودُمغوا مبكرا بتهم التكفير والهرطقة (قلت من نشطوا فى تسكين الحداثة الأدبية…!!). وبعيدا عن جدل بدايات التيارات الليبرالية فى السعودية، نجد أنه ورغم تنامى ظاهرة التيارات الليبرالية فى الخليج العربى، إلا أن التيارات الليبرالية فى السعودية ولخصوصية المناخ الإجتماعى الملبد بأجواء التشدد الدينى يحتاج لوقفة وتمحيص وإحتفاء خاص، وكل ذلك باعتبار أن نجاح تلك التجربة يمكن أن يُعتبر مؤشراً إيجابياً للغاية للتحولات الفكرية والسياسية والإجتماعية فى مجمل المنطقة العربية ويمكن أن يُعتبر إعلاناً صريحاً عن أن التحديث ذاته لم يعد خياراً من عدة خيارات إيديولوجية وإنما لحظة حضارية لا يمكن الفكاك من دفع إستحقاقاتها والإنخراط فيها .
ولكن رغم أن التيار الليبرالى فى السعودية فى بداية تخلقاته وتشكلاته إلا أن التحولات الفكرية والسياسية والإقتصادية التى أعلنت عن نفسها فى عقابيل إنتهاء رُحى الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقى المتمخض عنه تجاوز حالة القطبية العالمية، قلت ان تلك التحولات مضافاً إليها الإنفجار المعرفى والمعلوماتى، شكلت (حالة دفع) لتبلور هذا التيار وبمثابة ضمان مستقبلى لنجاح هذا التيار واكتساحه لبنى الوعى القديم. هذا طبعا إذا عرفنا أن مناخات الحرب الباردة والثنائية القطبية ما بين المعسكر الشرقى والغربى كانت قد دفعت بحالة إستقطاب حادة بين دول المنطقة والسعودية لم تكن بأى حال خارج دائرة الإستقطاب تلك. بما يعنى أنه وفى ظل تلك الأجواء كان يمكن للغرب أن يغض الطرف عن التجاوزات، ويتجاوز عن عمد طرح سؤال الإصلاح تحت ذريعة “لا صوت يعلى فوق صوت معركة منازلة المعسكر الشرقى”، وهذا ما حدث حينها.
مضافاً لذلك أحداث 11سبتمبر التى ضربت العمق الامريكى فى مقتل، وتداعايتها على مستوى الداخل السعودى وخاصة أن تلك الأحدث أثبتت ان معظم المكون البشرى والمادى لتلك الأحداث كان خلفه مواطنون سعوديين(15من جملة 19 ممن نفذوا هجمات الحادى عشر من سبتمبر كانوا مواطنين سعوديين). مما احدث حالة ذهول فى على المستوى الرسمى والإجتماعى فى السعودية، بل وتوسعت الهجمات الإرهابية لتضرب داخل العمق السعودى فى الخُبر والرياض، ليجد السعوديون أن لحظة الحقيقة عندياتهم قد حانت وأى حقيقة تلك سواء أن الأرهاب قد أعلن عن حضوره بكثافة داخل السعودية، مما يمثل تهديداً وخطراً على أدوار ومكانة المملكة العربية السعودية فى الخريطة الإقليمية والعالمية على السواء. ويهدد فى الآن نفسه سلامة وأمن المواطن السعودي. حيال هذا الخطر الإرهابى، كان لا بد من مواجهة الإرهاب عبر جملة تدابير من ضمنها تجفيف منابع الإرهاب عبر ضرب مدخلاته المتمثلة فى المؤسسة الدينية التى يسيطر عليها رموز التيار السلفى الوهابى، وعبر إصلاح فى نظام التعليم الذى يعتبر إحد روافع التشدد الدينى. وفى هذا لا يمكن أن نقرا حدث إفتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنلوجيا فى هذا العام والتى بلغت تكاليفها 5، 1 مليار دولار، خارج هذا السياق وخاصة أنها تعتبر أول جامعة مختلطة بين النساء والرجال فى المملكة العربية السعودية وتضم بين جنباتها طلاباً من مختلف دول العالم(أكثر من 60 دولة) ويتاح فيها للمرة الأولى للمراة أن تقود السيارة داخل حرم الجامعة ولا يتم فيها إجبار النساء على إرتداء العباءات. مما يؤكد أنها تأسس لبداية الحد من الضوابط على المرأة فى المملكة، ومما يعنى ضمنيا تأكل نفوذ وتصورات المؤسسة الدينية فى ما يخص الموقف من المرأة وهذا ما يتلاقى مع أطروحات التيار الليبرالى فى السعودية. هذا من جانب. ومن الجانب الأخر، يمكن أن يعتبر حدث إفتتاح تلك الجامعة أول الخطوات العملية فى إنزال تصورات ومطالب التيارات الليبرالية الداعية للإنخراط فى المدنية المعاصرة بشقيها المادى والقيمى، وقد تلعب تلك الجامعة فى إتساع دائرة تلك المطالب خارج إطار النخب الأدبية والفكرية والإعلامية، وخاصة ان هذه الجامعة وبالتنوع الثقافى والدينى والحضارى الذى يمثله طلابها قد تحدث حراكا قيمىا وحضارىا قد يؤثر فى المجتمع السعودى، ويدفع بجهود (اللبرلة والتحديث) فى السعودية. وقد تساهم مستقبلا فى تشكيل تيار فكرى فاعل ومؤثر فى الفضاء السياسى والإجتماعى والثقافى مما قد يشكل إضافة حقيقة للتيارات الليبرالية فى السعودية، وتكون إحدى حواضن الخطاب الليبرلى .وطبعا إذا أضفنا إلى ذلك المجاميع المقدرة من الطلاب الموفدين للدارسة فى الجامعات الغربية والذين كانوا باستمرار من المكونات الإساسية للتيارات الليبرالية فى السعودية.
إذا وفى ظل رغبة الحكومة السعودية فى الخروج من فخ العمليات الإرهابية التى تهدد مصالح المملكة السياسية والإقتصادية ، كان لا بد من فك الإرتباط بينها وبين التيارات الراديكالية، ودعم التيارت الإصلاحية الأخرى والتى لديها موقف من التشدد الدينى. ومن ضمن تلك التيارات بدون شك التيارات الليبرالية الذى ظلت باستمرار تحذر الحكومة السعودية من أن مهادنة التيارات المتشددة قد تنعكس سلبا على مستقبل الإستقرار الإمنى والإجتماعى فى السعودية. لتجد الحكومة السعودية أن مصالحها وفى هذه اللحظة بالذات ترتبط ببعض أطروحات التيارات الليبرالية خاصة تلك الأطروحات الداعية لنبذ الغلو والتطرف الدينى.إذا وفى ظل هذه المعطيات يمكن لنا أن نتهكن بمستقبل الخطاب التحديثى االليبرالى فى السعودية ، والذى إلى الآن ورغم حداثة التجربة قطع أشواط مقدرة فى تجذير خطابه فى المجتمع السعودى .
بيد أنه ورغم النجاحات المعتبرة للتيارات الليبرالية فى السعودية، تبقى هنالك ثمة محاذير يجب أن تُعطى أهمية ويتم التعامل معها بأفق واسع من قبل التيارات الليبرالية فى السعودية، من ضمنها ضرورة مراعاة خصوصية المجتمع السعودى خاصة فى ما يتعلق بالحضور المؤثر لثقافة القبيلة والطائفة والمذهبية التى تعيق تسكين الخطاب الليبرالى، مضافاً لذلك الحضور التاريخى للتيار السلفى الوهابى فى المجتمع السعودى وتحاشى الدخول معه فى مواجهات مباشرة قد لا تمتلك التيارات الليبرالية فى هذه اللحظة العُدة لها. وخاصة أن تلك التيارات السلفية قد تعزف على وتر العاطفة الدينية وتُحور المواجهة لتجد التيارات الليبرالية أنها قد دخلت فى منازلة مُباشرة مع المجتمع السعودى هى فى كل الأحوال فى غنى عنها. مضافاً لذلك ضرورة الإنفتاح النقدى على تجارب التحديث الأخرى فى منطقة الخليج وعلى سبيل المثال التجربة الكويتية التى قطعت شوطا بعيد فى هذا المضمار، والتجربة البحرينية، من دون تجاوز التجارب الأخرى فى المنطقة العربية .
cafo999@hotmail.com
الإحـــــالات:
* التيارات الفكرية فى الخليج العربى1938-1971، مركز دراسات الوحدة العربية
*شاكر النابلسى، جريدة الوطن السعودية
أضواء على التيارات الليبرالية فى الخليج العربى… السعودية نموذجاً
سالم راشد
مقال رائع أستاذ خالد
وجهد تشكر عليه
أضواء على التيارات الليبرالية فى الخليج العربى… السعودية نموذجاً
henry — rorow@hotmail.com
لغة المقال ركيكة… و المعالجة سطحية..للاسف