كان عمري خمس سنوات، وعمرهما سبعا.
في صباح العيد الباكر أزهو بملابس العيد الجديدة وأسير لمنزلهما المقابل لمنزل عائلتي. يخرجان ليلعبان معي. أرقب ما يرتديان. أندهش لملابسهما اليومية التي أعرفها جيداً.
كل عيد أسأل أمي؟ لم لا يرتدي أنطوان واسماعيل ملابس جديدة مثلي؟
فترد: هو العيد ليس بالملابس الجديدة وبس.
وأرد: العيد بماذا إن لم يكن ملابس جديدة. وتجيب: لأنهم بيسمعوا كلام مامتهم. فلا يرتديان ملابسهما الجديدة حتى لا يوسخانها..
وفي يوم لا أعرف وقته من كل سنة كانا يوصلان لنا البيض الملون الذي صنعته أمهما.فأسأل أمي: لم لا تأتي لنا ببيض ملون زاه مثل هذا. وتقول: خالة خضرة بترسله كل عيد. خلاص كله واحد.
في ديسمبر أتسمر في بيتهما تحت شجرة الميلاد منبهرة بالأغصان المزينة بأجمل حلة.
سألت أمهما: لماذا لا تضع أمي شجرة مزينة في بيتنا؟
قالت: بيتنا وبيتكم واحد. كلما أردت رؤيتها تعلمين جيدا أن البيت مفتوح لك طوال الوقت. لم أصدق خبرا وأمضيت معظم الشتاء بل معظم سنوات الطفولة في منزلهم الرقيق.
– عمري ثمانية.
التفت حول عنقي آيات الفلق، فيما تدلى من رقبة كليهما صليب صغير.
حمتنا قلاداتنا. مارست دورها.
كل قلادة حمت صاحبها، وخاطت بينه وبين الآخر رابط عميق وطفولة محبة.
– في عمر التاسعة… لا تزال القلادة تلف رقبتي.
معلمة المدرسة تهلوس بكلام غير مفهوم.
أنا طاهرة والتوأم رفيق الطفولة نجس!!
أمضيت أياما أراقب تلك العائلة الرحيمة وأنا أفكر بالاكتشاف الجديد.
ننتمي لدينين مختلفين.
لذلك لم أرهما يرتديان لباس العيد يوماً. ولم يكن ببيتنا شجرة ميلاد وما زارنا بابا نويل قط. وتلك الصورة المقدسة لرجل وسيم جداً على جدار منزلهما، حلت محلها آية الكرسي الكريمة على جدار بيتنا. لذا كانت أمي، حين يؤذن مسجد الحي معلنا الصلاة، تهرع لتلتف بالشراشف فتركع وتسجد فيما خالة خضرة تقعد مستكينة.
هذا تفسير كل شيء. أنا مسلمة وعائلة أصدقائي التوأم مسيحية.
صرت أدعو لرفقائي أن ينجيهما الله مثلما أنجاني.
لماذا نجوت أنا. وغرقا في وحل الكفر؟
سمعتني أمي أقول: مسكينة هذه العائلة ستذهب إلى الجحيم. نهرتني: من أين أتيت بهذا الكلام. قلت من حصص المدرسة.
– انس تلك الحصص. هذه العائلة مؤمنة جداً.
– مسيحية. ونحن مسلمون.
– مؤمنة ونحن مؤمنون.
لم أدافع أمامها عما تلقيته على يدي المعلمات وأحاديثهن غير المسؤولة، كدن يسرقن مني أصدقائي ويرمونهم في النيران بكل بساطة.
فرق بين الدين والإيمان؟
نجت العائلة وستدخل الجنة لأنها مؤمنة. رغم تأكيد كل المناهج الدراسية وبالأدلة أن من يمتلك شجرة ميلاد بمنزله كافر ومن يعلق تلك الصورة قد انحرف عن سنة المسيحية الحقيقية.
مرت الدنيا من حولنا بأحداث كثيرة ومشادات كبيرة وحروب أديان. اهتز كل شيء وانتشرت الشعارات والنظريات.. الحرب على الإرهاب، الغرب المستعمر، الحملات الصليبية تعود…ولا تزال أمي وخالة خضرة يتبادلان الزيارات وكعك العيد. لا يزال بيتنا يؤمن بأن الله اخاء وسلام. كنت أشعر كأنه منزل خارج الكون أو أنه الوحيد الذي يعيش حقيقة الكون. لم يستطع أي داعية أو محدث دين أن يؤثر على إيمانه كما تأثرت منازل كثيرة فتحولت لمعابد متطرفة تكبر وتهلل وتصفق لمقتل الآخر أو سحله في الشوارع. حادثة عابرة واحدة تخللت ذلك الاطمئنان..
حين كنت في التاسعة عشرة. فاجأنا أحد التوأم وهو يتقدم لخطبتي. لم تعلم أمي ماذا تقول. فأفهمها أنه يعرف سبب الرفض. لأنه مسيحي؟ لا يهم سأعلن إسلامي. لم يفرقنا شيء عندما لعبنا، سيحدث ذات الشيء حين نتزوج. حولت أمي الموضوع لدعابة لطيفة ونسيته بلحظتها ولم تفاتح والدته. وبقيت العلاقة كما هي.
– صرت في الخامسة والعشرين.
أنسى ارتداء القلادة. لقد أشبعتني حماية حتى تحصنت جيداً ضد الأذى وهتك الروابط. كما أنها، لآخرين، مؤشر على أني طاهرة. وأنا أكره المؤشرات والدلالات.
*
– قبل زمن، تعارفنا على العشاء في منزل صديقة لي.
له اهتمام عظيم بالموسيقى. اسمه إيلي كسرواني. في الأربعينات من عمره. بروفيسور يدرس الموسيقى في جامعة لبنانية. كان يرتدي وقتها بزة أنيقة. وله شكل وسيم ووقور.
رجل ليبرالي. على اطلاع مذهل بشتى أشكال الموسيقى. بالنسبة له اللحن روحانية سامية أكثر من مجرد معزوفة.
طال حديثنا ساعات عدة، عن أشياء كثيرة. سياسة، موسيقى، رقصات، أسفار، شعوب… كل عبارة من عباراته كانت تزيد المكان وهجا تنويرياً. شيء لم نتطرق إليه. الفارق الإيماني بيني وبينه (بحكم ليبراليته) حتى أنه لم يستشهد بالدين مطلقاً. لم نقل أكثر من رأينا بلحن أجراس الكنيسة التي تريحني وهواه لصوت المآذن العذبة ووصفه لها وفخره بها.
بعد أيام قالوا لي ان محدثي رجل في الأصل لاهوتي. مسيحي.
صرت وأبونا إيلي أصدقاء.. له رسالة واحدة في الحياة.. نشر الحب.
هو من النوع الذي تطغى روحه على جسده، لدرجة أنه بإمكانك أن تراها متجلية أمامك حين يتحرك ويحكي ويضحك ويدندن. للمرة الاولى في حياتي أشاهد روحاً.
قال لي انه كان طفلاً صغيراً حين مر وأبيه من أمام مسجد تصدح منارته بالأذان. فسأل أبيه: ماذا يحدث وما هذا البناء.
أجابه: إنها كنيسة المسلمين. صلي بابا. صلي.
*
لو لم أكن قابلت أمي أو خالة خضرة في طفولتي وريعاني. هل كنت سأكتب عن التوأم أنطوان واسماعيل بكل حب اليوم؟
هل كان أبونا إيلي سيغدو من أعز أصدقائي؟ هل كنت سأختاره دون تفكير بدينه أو معتقده؟ ولو لم يكن أباه قد أفهمه أن المسجد والكنيسة هما في النهاية مكان واحد.. أكان ممكناً أن يتحول لرجل دين مسيحي متطرف؟ هل كان سيحب المسجد ويعتبره كنيسة للمسلمين؟
Albdairnadine@hotmail.com
كاتبة وإعلامية سعودية
كنيسة المسلمين
Very good article as usual. By the way, I’m member of Librales Against Discriminations in Canada and also Egyptians Against Discriminations
كنيسة المسلمين
الانسان جوهره واحد ويسعي
لرضاء الالهه في عصور الحضارات القديمه
هل عندما ندرس حضارات اجدادنا نعتبرهم كفار
ربما كانوا يصنعون من المكرمات ما لانستطيعه اليوم
اعجبني في قصه يونان والحوت
ان صاحب السفينه طلب من الركاب ان يدعو كل الي الهه هو ولم يقل الهي
الله لايحتاج الي التعصب بل الي المحبه فهي الباقيه واشكر لكاتبه المقال محبتها وحُسن ادراكها للأمور
كنيسة المسلمين
GOD BLESS YOU