تبرز الآن فرصة جديدة للـ “الحركة الخضراء” في إيران لكي تظهر معارضتها للجمهورية الإسلامية ولنتائج الانتخابات الرئاسية المتلاعب بها في وقت سابق من هذا العام. فحسب «التقويم الإسلامي القمري»، وافق يوم الجمعة 18 كانون الأول/ديسمبر أول أيام شهر محرم الذي يعقبه شهر صفر. وبالنسبة للنظام في طهران، أصبحت السيطرة على الشوارع بصورة تدريجية أكثر صعوبة منذ أن بدأت الحركة الخضراء تحوّل جميع الإحتفالات السياسية الرسمية المجازة إلى فرص لشن احتجاجات ضد الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك، فإن الشهرين الحالي والمقبل، يمثلان المرة الأولى التي تحين فيها فرصة دينية.
الحداد معناه التمرد
حسب التقليد الشيعي، قاد الإمام الثالث حسين بن علي تمرداً نبيلاً ضد الحكم الظالم للخليفة المسلمي يزيد بن معاوية، ولكن التمرد كان فاشلاً في النهاية. ويمثل يوم العاشر من محرم، أو عاشوراء، نهاية ذلك التمرد الدموي في تشرين الأول/أكتوبر عام 680 م [سنة 61 هجرية] ، عندما واجه الإمام حسين جيش يزيد في كربلاء. وبمجرد هزيمة قوات الإمام حسين، قتل الإمام بطريقة وحشية مع بعض من تلاميذه السبعين، جنباً إلى جنب مع جميع الأعضاء الذكور من أفراد أسرته. ومنذ ذلك الحين، احتل الإمام حسين مكانة خاصة بالنسبة للشيعة. وحصل على لقب “سيد الشهداء”، وعلى مر التاريخ الإسلامي تأثر ملف صورته بأساطير ما قبل الإسلام، وكذلك بالكتاب المقدس المسيحي. إن إحياء ذكرى روحية الإمام حسين وتضحيته، فضلاً عن معاناة أسرته وتلاميذه، تمثل بمثابة نقطة محورية للحفاظ على الهوية الشيعية. وينظر الشيعة إلى أحداث عاشوراء باعتبارها لحظة حاسمة عندما انشقوا عن الطائفة السنية التي مثلت التيار الرئيسي والخلافة. واستطراداً لذلك، قام الشيعة منذ فترة طويلة بربط العزاء على الإمام حسين، وتضحيته الإلهية، مع مبادئ الحق والعدل بدلاً من القيادة الظالمة والقاسية.
محور الشبكات الاجتماعية الشيعية
لقد أصبحت مراسيم إحياء ذكرى عاشوراء بمثابة «الأسمنت» الأسطوري الذي يربط المجتمع في إيران، سواء قبل وبعد القرن السادس عشر — عندما أصبح المذهب الشيعي مذهب الدولة الرسمي. ولا تحيى الذاكرة في المساجد فحسب، بل أيضاً في مئات الآلاف من المباني المعروفة بالحسينيات أو التكايا التي تم تشييدها لغرض وحيد وهو إحياء ذكرى عاشوراء. وبالإضافة إلى هذه المواقع، التي يتم تمويلها من قبل الأوقاف والجهات المانحة الغنية، قام العديد من أسر الطبقة المتوسطة والعليا بتجهيز بيوتهم لتصبح أماكن لإحياء ذكرى مأساة كربلاء. ومن خلال هذا الإجراء، قام أعضاء هذه الأسر بمباركة ديارهم وأسرهم باسم الإمام حسين. إن كل من الحسينيات والمنازل الشخصية التي تستخدم لإحياء ذكرى [عاشوراء] قامت ببناء شبكة اجتماعية واسعة النطاق في إيران، وبقيت كبيرة حتى عندما أصبحت البلاد أكثر تمدناً. وقد قامت هذه الشبكة، في ظل ظروف معينة، بتأدية وظائف اجتماعية وسياسية غير دينية في ظل غياب مجتمعات المجتمع المدني، ووجود قيود فرضتها الحكومة في المجال العام. ويتم احياء ذكرى استشهاد الإمام حسين عن طريق طقوس الـ “روضة خاني”، التي تتكون من ألحان حزينة تسرد مآسي واقعة كربلاء، وعادة ما يؤديها مرتلين مهنيين ومنشدين دينيين، أو مداحين. وفي خلال هذين الشهرين محرم وصفر، يشكل الشيعة الـ “هيآت” أو الجمعيات الدينية، التي تنظم المواكب في الشوارع والتي تبدأ بقيام تجمعات في المساجد، أو الحسينيات، أو التكايا، أو المنازل الشخصية. ثم يخرج المصلون إلى الشوارع، حيث ينشدون أغاني دينية إيقاعية ويضربون صدورهم. ويقود صفوف الجلادين الذين يضربون أنفسهم بالسياط في هذه المواكب، شخص واحد أو أكثر من الأفراد الذين يتحملون عبء الوزن الساحق للصليب المزخرف من الصلب يسمى ” عَلَمْ “. وتصاحب مراسيم الرثاء الحاشد في الشوارع موسيقى خاصة بذكرى عاشوراء، بما فيها العزف على الأبواق، والنقر على الطبلات، وغيرها من الآلات الموسيقية. ولا تقتصر أقوال المنشدين الدينيين والمرتلين المهنيين ورجال الدين على سرد مأساة واقعة كربلاء، بل يتطرقون أيضاً إلى القضايا الإجتماعية والسياسية المعاصرة. وفي السنوات التي سبقت الثورة الإسلامية، وفرت الأشهر محرم وصفر أفضل فرصة لرجال الدين المناهضين للحكومة لكي يقوموا بتحريك وحشد الناس ضد الشاه، وعادة عن طريق مقارنته مع يزيد بن معاوية، المثال للحاكم الظالم. ومن ناحية أخرى، شبهت المعارضة نفسها بالشهيد المقتول الإمام حسين الذي يجسد الحقيقة والعدالة.
فشل سياسة الإحتكار
منذ بداية الجمهورية الإسلامية، وضعت الحكومة نفسها باعتبارها السلطة الرسمية والحصرية في الشؤون الدينية. ولم يقتصر الأمر على قيام النظام باحتكار إدارة المنظمات والجمعيات الدينية-الاقتصادية التي تقوم بإدارة الأوقاف جنباً إلى جنب مع المؤسسة الدينية، ولكنه حاول أيضاً توطيد إدارة الطقوس الشيعية التي عادة ما تقع خارج نطاق الولاية القضائية للدولة. ومن خلال قيام الحكومة بإنشاء هيئات مثل “مكتب الدعاية الإسلامية (دفتر تبليغات إسلامي)”، و “منظمة الدعوة الإسلامية (سازمان تبليغات إسلامي)”، و “مركز إقامة صلاة الجمعة (دبيرخانه ائمه جمعه و جماعات)”، و “مركز شؤون المساجد (مرکز رسیدگی به امور مساجد)”، وعشرات غيرها من المؤسسات المماثلة، فقد تمكنت من تطهير رجال الدين الذين لا يُعتبرون مؤيدين للحكومة بما فيه الكافية ولإسكات وعوظهم وفعالياتهم خلال الطقوس الدينية مثل تلك التي تقام في عاشوراء. ومع ذلك، ونظراً للمراعاة الواسعة النطاق لطقوس محرم وصفر، فضلاً عن وصولها إلى كل ركن من أركان البلاد، لم تستطع الحكومة السيطرة بصورة فعالة على جميع الممارسات المرتبطة بإحياء هذه الذكرى. وفي السنوات الأخيرة، شكى النظام من المحاولات التي يقوم بها جيل الشباب لتحويل الإحتفاء بالذكرى الدينية إلى حدث أكثر تجديداً وعصرية. ولأسباب اجتماعية وثقافية كثيرة، تمكن الشباب الإيراني من تحويل الأحداث إلى فرصة لتجربة الموسيقى الجديدة، والإختلاط مع بعضهم البعض دون خوف من تدخل الشرطة، في الوقت الذي لا يستطيع هذا الشباب التمتع بالحفلات والمهرجانات في الشوارع كما يتمكن أقرانهم في أكثر المجتمعات الغربية المنحى، أو حتى الإلتقاء مع أعضاء من الجنس الآخر في الأماكن العامة.
وفي السنوات الأخيرة وخلال قيام المهرجانات، شهدت العديد من أحياء الطبقة الوسطى والعليا في المدن الكبرى فنانين شباب يغنون أغنيات عاطفية ورومانسية مع أناشيد متناقضة – وغير متحفظة ومفتوحة تجاه تحديد طبيعة هويتها من جانب أي من الجنسين وقابلة للتطبيق على الحب المقدس والدنيوي. كما أن ألحان وأسلوب الموسيقى هي أيضاً مستوحاة من أنماط غربية، بما في ذلك موسيقى “البوب والروك أند رول”. ومن جانبهن، ترتدين الشابات، الفساتين والثياب المكشوفة، التي عادة ما تكون سوداء، وتذهب البعض منهن إلى حد وضع الماكياج الأسود، كمحاكاة للثقافة الفرعية القوطية الغربية. وقد انتقد آية الله علي خامنئي ورجال دين رسميين آخرين هذا “التحول” في طقوس عاشوراء بإعتباره “غير ملائم”، ولكن بالرغم من ذلك، فشلت الحكومة في منع الشبان من إعادة صياغة المراسم الدينية لأغراض خاصة بهم.
محاربة العدو بأسلحته الخاصة
أصبحت “الموجة الخضراء” – باعتبارها حركة لامركزية – في وضع يؤهلها تحدي الحكومة باستخدامها الطقوس الدينية التي تقام خلال شهري محرم وصفر. ومن وجهة نظر الحكومة، فإن قيامها بتصعيد المواجهة ضد المشهد الإجتماعي المفعم بالحيوية من شأنه أن يثبت بأنه مرهق إلى حد الإعياء. إن المساجد والمنازل في جميع المدن والقرى تقريباً التي يعيش فيها الشيعة، تشكل مراكز محتملة لقيام حركة مدنية وديمقراطية معارضة للحكومة. وبعد كل شيء، فقد استخدم الإيرانيون هذا الأسلوب نفسه خلال السنوات التي سبقت الثورة في عهد الشاه. وقد لعبت مشاركة الملايين في هذه الطقوس — بمن فيهم العديد من الذين لم يمارسوا عادة دينهم — دوراً رئيسياً في إسقاط نظام الشاه قبل ثلاثة عقود. واليوم، بإمكان رجال الدين ذوي الرتب المنخفضة أيضاً والذين يؤيدون الحركة الخضراء أن يلعبوا دوراً هاماً عن طريق سماحهم للشعب بتسييس المراسيم وتحويلها إلى تجمعات للمعارضة. وفي بيان صدر مؤخراً، قال رجل الدين المعارض آية الله حسين علي منتظري [الذي توفي في مدينة قم يوم السبت التاسع عشر من كانون الأول/ديسمبر الحالي عن 87 عاماً] أن “الجمهورية الإسلامية ليست إسلامية أو جمهورية، بل هي حكومة عسكرية”.
إن قيام الحركة الخضراء باستخدام الأشهر محرم وصفر [لأهدافها السياسية] يمكن أن يكون له تأثير هائل على المؤهلات الدينية والشرعية للنظام. وإذا كانت الحكومة تتجنب العنف انطلاقاً من احترام القيم الدينية للأشهر محرم وصفر، فإن ذلك قد يعني قيام تحديات علنية لأسس إيديولوجية الجمهورية الإسلامية خلال هذين الشهرين. ولكن إذا ما اتخذت الحكومة إجراءات مشددة ضد المظاهر الدينية، فإن الاستياء ضد الجمهورية الإسلامية يمكن أن يزداد بدرجة كبيرة.
مهدي خلجي هو زميل أقدم في معهد واشنطن، يركز على السياسة الإيرانية وسياسة الجماعات الشيعية في الشرق الأوسط.