1-
شاركتُ، قبل أشهر، إلى جانب الدكتور يوسف زيدان في ندوة حول رواية “عزازيل”. جاءت الندوة ضمن فعاليات مهرجان برلين الدولي للأدب، الذي أبدى منظموه اهتماما واضحا بالرواية وصاحبها.
في الندوة المذكورة، وبعدما فُتح باب النقاش أمام الحاضرين، فوجئنا بشاب يقف في وسط القاعة قائلا بأعلى صوته: “هذه رواية حقيرة”، ثم استطرد في التدليل على “حقارتها”، بعبارات لا تخلو من العنف اللفظي قبل أن يرغمه الحاضرون على التوقف عن الكلام.
وقد طلبتُ، يومها، من زيدان، الذي أسرّ لي بأنه كثيرا ما يسمع عبارات كهذه في مصر، أن يسمح لي بالرد على الشاب ـ لئلا تتحوّل الندوة إلى نوع من المناكفة الشخصية ـ فاستجاب.
ولستُ، هنا، في معرض سرد ما دار من نقاش في هذا الشأن، بل لفت الأنظار إلى حقيقة أن الشاب المصري كان قبطيا، وأن احتجاجه على الرواية نجم عن قناعة بكونها تمس بتاريخ الكنيسة، وأصول الديانة المسيحية، أو العقيدة، كما أسماها. القناعة التي يبدو أن عددا من الأقباط في مصر لا يجد صعوبة في قبولها، والتي حرّضت بعض الغيورين منهم على تكريس كتب بأكملها للرد على “عزازيل”، وكان نصيبي في نهاية الندوة ثلاثة كتب منها، حصلت عليها من الشاب نفسه، تعبيرا عن امتنانه لما جاء في كلامي عن الأقباط في مصر من إنصاف، على الرغم من دفاعي الحار عن الرواية وصاحبها، ورفضي لمحاكمة الأعمال الأدبية بأدوات ومفاهيم من خارج الحقل الأدبي.
وأعترف بأنني شعرت بقدر من التعاطف مع ذلك الشاب، على الرغم من عدم اقتناعي بما ساق من براهين، وامتعاضي مما وسم كلامه من العنف اللفظي، وافتقاره للحد الأدبي من اللياقة وآداب الحوار. ومنشأ التعاطف أن الأقباط في مصر يتعرضون لضغط من أعلى ومن أسفل: من النظام الحاكم مرّة، ومن الأصولية الإسلامية المتعاظمة في أوساط الطبقات الشعبية مرّة أخرى، لكن ردهم على ذلك ينبغي أن يتمثل في الدفاع عن فكرة المواطنة، وعن الهوية المصرية الجامعة، باعتبارها أعلى من الانتماء الديني والطائفي، بدلا من التمركز على الذات، وبلورة هوية انعزالية.
2-
لم يبد زيدان، في حينها، اعتراضا على ما ذكرت، وبدا سعيدا بما نال من اهتمام في العاصمة الألمانية، وفي مهرجان للأدب يُعتبر من الفعاليات الثقافية المرموقة في أوروبا. وكان منشأ الاهتمام أن “عزازيل” يمكن أن تُقرأ كمرافعة من أجل التسامح وضد التعصب والاستسلام لغرائز الغوغاء. وهذا أكثر ما يحتاجه العالم العربي المحاصر والمطحون ما بين أصوليات دينية جامحة وطامحة، وأنظمة للحكم شمولية، لا تقل عنها إثارة للذعر، فاسدة وكاسدة.
وبفضل وما تنطوي عليه مرافعة كهذه من دلالات سياسية واجتماعية، علاوة على براعة السرد، وكفاءة النثر الروائي، وجد يوسف زيدان نفسه محط اهتمام في العالم العربي وخارجه، وصاحب مكانة يبررها الإنجاز والانحياز إلى قيم إنسانية رفيعة.
ولكن هذه المكانة لم تعد أكيدة ولا مضمونة، ليس لأن كارهي الرواية وصاحبها وجدوا ما يكفي من البراهين للتدليل على صدق دعواهم، بل لأن زيدان نفسه، وبما يشبه الانتحار الأخلاقي، هو الذي ألحق الضرر بما حق من مكانة، وما نال من اهتمام. هذا، على الأقل، ما يمكن استخلاصه من مقالة كتبها لإعلان الانخراط في صفوف الحملة المعادية للجزائريين والجزائر في مصر بعنوان “ذكريات جزائرية”.
والمُحزن في الأمر، وهذه مفارقة من العيار الثقيل، أن صاحب “عزازيل” لم يبدِ أدنى قدر من التسامح، أو اللياقة، في كلامه عن الجزائريين والجزائر، بل كتب عنهم بطريقة فوقية وعنصرية يمكن وصفها بالألفاظ الجارحة نفسها، التي استخدمها الشاب المصري القبطي في الكلام عن روايته.
كان من حقه توجيه النقد إلى الطبقة الحاكمة في الجزائر، واتهامها بما شاء، كما كان من حقه توجيه أصابع الاتهام إلى الغوغاء الجزائريين، الذين حملوا السكاكين في مباراة مصر والجزائر في الخرطوم، ولكن هل يحق لمن كتب رواية تدعو إلى التسامح، وتحذّر من غرائز العوام، أن يضع الجزائريين جميعهم في سلة واحدة، أن يصفهم بالمجرمين، وأن يحكم عليهم بالجهل والتعصّب والبداوة، مستعينا بذكريات شخصية سلبية لا تنجو من شبهة الغي والهوى، يمكن أن نسرد ما لا يحصى من أمثالها عن كل بلدان الكون، بما فيها مصر بطبيعة الحال؟
في أسوأ الأحوال من حقه أن يشتم كما يشاء، ومن حق الآخرين العثور على تناقض واضح وفاضح بين نصه الأدبي وذكرياته “الجزائرية. وحتى هذا التناقض يمكن التغاضي عنه، لو لم يكن مرافعة عن غرائز العوام، من جانب شخص كتب رواية أعجبت عددا كبيرا من الناس، بالضبط، لأنها نجحت في تفسير وإدانة غرائز الجموع.
3
–
وبما أن زيدان لم يكن وحيدا أو فريدا في إشهار عدائه للجزائريين، دون تخصيص، أو تمحيص ـ بين رجل وامرأة، بين طفل وبالغ، بين مؤيد ومعارض، بين متعلّم وجاهل، بين حكومة وشعب ـ فهم مجرمون، كما يعتقد، وغلاظ القلوب، ويكرهون مصر والمصريين، فمن الضرورة بمكان تفسير ظاهرة تكلّم عنها أكثر من معلّق عربي، وبينهم مصريون، في الآونة الأخيرة.
تتمثل الظاهرة المعنية في العنف اللفظي والغضب المتجلي في مواقف نسبة لا بأس بها من المثقفين المصريين، إزاء ما حدث في سياق وبعد مباراة مصر والجزائر، وقد تكررت مواقف مشابهة إزاء أحداث أخرى، وغالبا ما كانت مصحوبة بالكلام عن مؤامرة على مصر، وعن محاولة للنيل من مكانتها، كما حدث مثلا بعد انتخابات اليونسكو، وكما يحدث هذه الأيام بعد الإعلان عن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.
والواقع، كما أعتقد، أن هذه الظاهرة نشأت بفضل عاملين اثنين:
أولا، نجمت عن إحساس عام بفقدان مصر لمركزية دورها السياسي والثقافي في العالم العربي. وقد نجم فقدان المركزية عن سياسات خارجية وداخلية خاطئة، لا مجال للخوض في تفاصيلها الآن.
ثانيا، نجمت عن إحساس عام، أيضا، بفقدان المثقفين لدورهم المركزي في حياة مصر الثقافية والسياسية. هذا الإحساس المروّع بالهامشية لا يقتصر على المثقفين في مصر، بل على الغالبية العظمى من الحواضر العربية. والسبب أن ما منح المثقف مركزية في العالم العربي، كما في مناطق أخرى كثيرة، نجم عن مشاريع إنشاء الدولة الحديثة، وبلورة هويات وطنية وديانات مدنية جديدة. وهذه كلها مشاريع دولانية، اكتملت أو وصلت إلى طريق مسدودة.
لم يعد تحالف دولة الحواضر العربية مع المثقفين على رأس أولوياتها، ولم تعد حريصة حتى على إنتاج مثقفها “العضوي” الخاص. ففي زمن العولمة يحظى رجال الأعمال والتقنيون والدعاة والمهنيون والإعلاميون في التلفزيون والإنترنت بمكانة تفوق مكانة المثقفين بالمعنى الذي كان شائعا على امتداد معظم القرن العشرين.
بهذا المعنى فإن تأويل وتحويل كل مشكلة شخصية أو عامة إلى مؤامرة على مصر يندرج في إطار التفاوض حول عقد جديد بين المثقف والسلطة، وقد أصاب رؤوف مسعد عندما كتب في تعقيب على ذكريات زيدان الجزائرية بأن البعض “يتشمم من أين تهب الرياح فيتبعها ويلحقها ويحاول أن يسبقها”. وفي رأيه فإن الدولة هي التي تحكم وجهة الريح.
مهما يكن من أمر، يموّه زيدان في “عزازيل” هوية صاحب النص، الذي يفترض أن يكون هيبا، الراهب المصري الهارب من التعصّب وجنون العوام، كاتبه. يد هيبا هي التي تكتب، ولكن الكلمات ربما تكون لعزازيل. وإذا استخدمنا القياس نفسه، وإذا كانت يد زيدان هي التي كتبت ذكرياته الجزائرية، فمن الذي أملى عليه؟
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
مَنْ الذي أملى عليه..!! رافقت الشاعر العراقي السكير والمأفون (جان دمو) لبضعة ايام اثناء زيارة للاردن .. مشهد بائعي الكاز (كيروسين) على عربة يجرها بغل قارعين الجرس كاشارة متعارف عليها اجتماعيا لتواجدهم بالجوار لجلب المستهلكين لسلعتهم كان رائع بالنسبة لي ومزعج بالنسبة له .. (اما محلات بيع الدجاج فكانت بالنسبة لطفلي اختي المولودين في امريكا كديزني لاند , فكان تناوب افراد عائلة مضيفنا لمرافقتهم لامضاء اكثر من ساعة يوميا هناك من مستلزمات حسن الضيافة) .. انتهى (جان دمو) في تلك الفترة من قراءة كتاب ل (جان بول سارتر) باللغة الانجليزية وكان رأيه الممتزج بشعوره رفع يده اليمنى للأعلى ببطء بالتوازي… قراءة المزيد ..
مَنْ الذي أملى عليه..!!
اختلف مع الاستاذ حسن خضر في وجه نظره عمن املي عليه تلك المواقف. فيوسف زيدان مثله مثل محمد عمارة الفارق بينهما في الدرجة وليس في النوع. فكلاهما يخدمان الاصولية وهنا يكمن الفرق بينهما فعمارة صريح وواضح في عدوانيته ونواياه أما زيدان فمموه ومتخفي. لكنهما يتفقان بتطابق في ان كلاهما من المرضي عنهما من السلطة فهما يشغلان منصبين لا يشغلهما احد الا باختيار السلطة وفقط. فالسؤال عمن املي عليه هذا يستلزم بالضرورة سؤال عمارة ايضا عمن املي عليه اقواله. فموضوع الجزائر كشف كثيرين ممن تماهوا وراء الاعتدال والعقلانية.
مَنْ الذي أملى عليه..!! الدكتور زيدان عالم وكاتب وروائى عظيم كتب روايته عزرائيل هذا شيئ عظيم نقره ونعترف به وبما انه الباحث واستاذ المخطوطات وبالطبع الروائى القدير نرجوه بان يتكرم ويكتب لنا روايه عظيمه اخرى تروى احداثها لن نقول جرائم بل فتوحات اوغزوات او اعمال الغازى او الفاتح عمر ابن العاصى لمصر وبعد ذلك سيدى الكاتب الاستاذ حسن خضر نريد او بالاحرى نتمنى نقرأ كتاباتك اومقالاتك ونرجوك ايضا عندما يحدث ذلك فى المستقبل ان لا تنسى ان تقارن بين دلك الشاب القبطى الذى كتبت عته قائلا انك غير مقتنع مما ساقه من براهين وامتعاصك مما وسم كلامه من العنف الفظى… قراءة المزيد ..
مَنْ الذي أملى عليه..!! ما أشبة اليوم بالبارحة
هل حركت هذه المقالة فينا مشاعر تذكرنا برواية سلمان رشدى الشهيرة: آيات شيطانية. حقاً مَنْ الذى أملى عليه..!!