كانت زيارة الرئيس السوري بشار الاسد الى جدة ولقاؤه الشخصي بالعاهل السعودي عبدالله بن عبد العزيز على هامش افتتاح جامعة الملك عبدالله، مناسبة لعودة العلاقات السعودية السورية بالتدريج الى سابق عهدها، مع الاخذ بالحسبان تغيرات دولية واقليمة تفرض على الدولتين سياقات مختلفة عن التفاهمات السابقة، والتي كانت اقرب الى تلزيمات سياسية بقالب رعوي.
زيارة جدة اعقبتها زيارة للملك السعودي الى دمشق هدفت الى تكريس المصالحة التي بدأت بقمة الكويت، ولكن دون انجازات او اتفاقات ذات طابع تنفيذي او اهمية بين البلدين، الى ان ما جرى قبل الزيارتين و خلالهما، وما تطرق اليه الرجلان داخل الاروقة المغلقة شكل مجموعة مؤشرات لبداية قراءة جديدة و مشتركة بين مسارين متقابلين على المستويين الاقليمي و الدولي .
بين جدة و دمشق حضرت طهران ببعديها، اللبناني الذي لم يكن له الاولوية في حوار القائدين ولم ياخذ الا جزءا قليلا من النقاشات، لاعتبار ان التفاهم السعودي السوري، ينعكس مباشرة بالايجاب على بيروت، مع التفهم السوري لحجم المتغيرات اللبنانية والعربية في العلاقة معها ومع خياراتها، حسب ما افادت مصادر عربية اطلعت على تفاصيل لقاء جدة بين الزعميين ،والذي اخذ فيه البعد العراقي ومعالجة النفوذ الايراني الحيز الاكبر من النقاش .
من هنا يصبح العشرون من كانون الاول مفصلا تاريخيا في تكريس علاقة جديدة بين بيروت ودمشق يحدد القيمون الجدد عليها كيفية تنفيذها وحدود تطويرها وتوسيعها، بما يكبح رغبة البعض على جانبي الحدود بتكرار مرحلة الوصاية على لبنان ووضع حد لمعادلة الاستقواء على الداخل بالخارج، و الانتقال الحاد بين لبنان وسوريا الى مرحلة الندية والتكافؤ.
ما بين اتصال الملك السعودي بالرئيس السوري، ووصول الرئيس الحريري الى دمشق، مسافة قصيرة زمنيا كبيرة سياسيا قطعت تكهنات وفتحت باب التوقعات على مصراعيه لحدث انتظره الجميع واعتبروا مجرد حدوثه اعلانا رسميا عن البدء بارساء قواعد جديدة لحركة العلاقات والتفاهمات في المنطقة تقوم على التهدئة وتوسيع المشتركات وتقريب المسافات بين العرب، ومعاجلة المسائل العالقة في ملفات المنطقة، في اطار المصالح العربية المشتركة .
ان الزيارة التي اعقبت الاتصال، لم يزل عدد الذين عرفوا توقيتها مجهولا كما هو مجهول وقت علمهم بها، وما هي العواصم التي بلغت مسبقا او متى بُلغت. وفي لحظة هذه الزيارة كانت وحدات من القوات المسلحة الايرانية تتوغل داخل الحدود العراقية في منطقة العمارة باتجاه حقل “فكة” النفطي الواقع في اخر نقطة من الحقل الحدودي المشترك، وترفع العلم الايراني في المنطقة الرابعة منه، بشكل مفاجىء لم يسبقه اي طلب او تحذير ايراني مسبق، ما احرج اصدقاء ايران في بغداد و حلفاءها المفترضين و المتهمين من قبل محيطهم العربي بتغليب المصالح الايرانية على المصالح العربية في سياسات العراق العامة. بناءً عليه، يتوقع معه ان ينعكس التصرف الايراني والارباك العراقي سلبيا على نتائج الانتخابات لدى الاطراف السياسية الشيعية في العراق، الأمر الذي يمكن ان يكون اثره اكبر من اثر حملة الاتهامات التي وجهت الى دمشق بعد التفجيرات الكبيرة التي وقعت في بغداد والتاكيد العراقي الرسمي المتكرر لدور البعثيين العراقيين في هذه التفجيرات بتوجهات صادرة عن قيادات بعثية مقيمة في سوريا .
ان لحظة الحدث والتوقيت الايراني له، و الاجواء والمناخات التي تبعته ورّدات الفعل التي تلته، في الوقت التي كانت دمشق تنجز اصعب مصالحاتها، ربما تعني أن طهران حاولت خطف الاضواء من “قصر الشعب” وعادت الى اختيار اسلوب التصعيد غير المباشرمع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وفتح القنوات مع العرب عبر زيارة رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني الى القاهرة، و كلامه الايجابي عن الحكم اليمني، وكل هذه المعطيات قد تشير الا ان هناك جهة ايرانية ما، من داخل السلطة قد احدثت هذا التوتر، لاسباب ربما كانت تعود لاسباب تتعلق بصراع المحافظين الغامض على السلطة في طهران، ما يثر تساؤلا حول الجهة الايرانية التي اتخذت القرار، ويعني ايضا ان تباينا في وجهات النظر حول معالجة القضايا الاقليمة قد بدات يتضح في المشهد الايراني المحافظ، ما يعزز الاشارات على احتمال وجود رغبة سورية في فصل المسارات المتداخلة.
في المشهد تفاهم سوري سعودي ساعد على انجاز حكومة الحريري الاولى. وقد تكون دمشق قد لعبت دور اقناع طهران بتمرير الحكومة اللبنانية من اجل ابعاد صواعق التفجير المحتملة في المنطقة ولو لفترة، خصوصا بعد الانتباه الى محاولات بعض مراكز صنع القرار في طهران ربط الحكومة اللبنانية بمستقبل التسوية بينها بين واشنطن وتأجيل تشكيلها الى ما بعد الانتخابات العراقية و الاتفاق على اسم رئيس الوزراء العراقي، ما يعني تجاوزا لكل المصالح العربية، وتأسيسا لتفاهم اميركي ايراني في ترتيب شؤون المنطقة يسقط الموقع و الدور العائد لحلفاء واشنطن و يرسخ دور التبعية للدائرين في فلك طهران .
وبالتزامن مع الجلسة المسائية التي جمعت الرئيس الحريري و الرئيس الاسد، كان الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يلقي خطابه في الليلة الثانية من عاشوراء، والذي دعا في احد فقراته المراهنين على فك الارتباط السوري الايراني، للتخلي عن طموحاتهم، نظرا لعمق ومتانة هذه العلاقة. الا ان علامات الاستفهام هي حول سبب اختيار السيد نصرالله التطرق الى موضوع العلاقات الايرانية السورية في هذه اللحظة بالذات، وكأنها رسالة يطمئن فيها حلفاءه الى بقاء ومتانة هذا الارتبط، او ان هناك ابعادا اخرى تتجاوز لبنان و تستدعي التذكير بالثوابت في غمرة تقاربات عربية تجمع بين اطراف خاضت مواجهات فيما بينها، ثم اقتنعت بعدم جدوها على ما يبدو.
في المحصلة تقارب سعودي سوري انجز، وانعكس مباشرة على لبنان، يعزز قدرة بيروت على الخروج من او الابتعاد ولو قليلا عن دائرة الصراع في المنطقة. كما يفتح هذا التقارب الباب امام تقاربات اخرى اكثر الحاحا من الازمة اللبنانية واكثر ضرورة لدى السعودي واكثر حساسية عند الطرف الايراني. وفي بغداد، حين تلوح دمشق لشريكها السعودي بشراكة في صنع جزء من القرار العراقي من خلال المجموعات السياسية العراقية المعارضة الموجودة في دمشق تكون دمشق قد ضمنت للرياض دورا سياسيا فاعلا في العراق مقابل تقبل حلفائها في بيروت للمصالح السورية ولكن من بوابة الرياض ما يؤسس لما نفاه السيد نصرالله في خطابه الاخير.
لعل هناك تنبها سوريا الى ضرورة سلامة دمشق من احتمالات تصعيد مقبلة اتجاه طهران يصعب على الحليف السوري تحمل نتائجها ما يدعو دمشق الى التمايز النسبي لا القطيعة مع كل الاطراف من واشنطن الى اوروبا الى طهران الى انقرة ثم تل ابيب بانتظار تبلور نتائج الاتصالات الجارية التي لا تخلو من تعثر او تعقيد .
mhfahs@gmail.com
كاتب في السياسات الاقليمية